احتضن الأردن على مدى عقود ماضية، موجات من النزوح لشعوب عربية مجاورة نظرت إلى المملكة باعتبارها ملاذاً آمناً، على رغم تردي الأوضاع الاقتصادية ومحدودية الموارد، في بلد يعد أحد أفقر خمس دول في المياه في العالم. ويبدو أن مسلسل النزوح المستمر لعشرات الآلاف من السوريين الذين دخلوا الأردن عبر السياج الحدودي، ويعانون حياة قاسية، دفع مسؤولين ومحللين في عمان إلى التحذير من تردي الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد، وذلك على وقع احتجاجات شعبية تطالب بالإصلاح ومحاربة الفساد. منذ العام 1948 والأردن يرزح تحت وطأة اللجوء الفلسطيني، تبعه لجوء آخر عامي 67 و68 لعشرات آلاف الفلسطينيين الذين توزعوا على 13 مخيماً، جهزتها في ذلك الوقت الحكومة الأردنية ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين «الأونروا». وأثقلت عمان موجتان من اللجوء العراقي، واحدة قبل احتلال العاصمة بغداد بسنوات طويلة بسبب الاضطرابات والحصار، وأخرى عقب الاحتلال الأميركي عام 2003. وشكل اللجوء السوري أزمة أخرى في بلد تقول الأرقام غير الرسمية، إنه بات يحتضن أكثر من مليون لاجئ سوري وعراقي، ما يعني أنهم يشكلون خمس سكان المملكة التي يقدر تعدادها البشري بنحو 6,7 مليون نسمة. واستقبل الأردن عام 1982 آلاف اللاجئين السوريين الذين نجوا بأرواحهم من مجزرة حماة الأولى، ليستقبل اليوم أكثر من 150 ألف لاجئ جديد هجرتهم أعمال القتل والتنكيل، بحسب منظمات أهلية أردنية، إثر انتفاضة شعبية عارمة انطلقت منذ عام ونيف ضد الرئيس بشار الأسد ونظامه. ولرصد ظاهرة اللجوء التي يشهدها الأردن عن كثب، توجهنا إلى شمال المملكة حيث مدينة الرمثا الواقعة على الحدود الأردنية السورية والتي تحتضن آلاف العائلات السورية التي فرت من مصير مجهول. في إحدى الغرف الصغيرة داخل تجمع سكني يضم المئات من اللاجئين، التقينا بثينة أحمد (28 سنة) من حي الخالدية في حمص. كانت تتحايل بعناء على جوع أطفالها بقليل من الخبز البائت وبعض حبات الطماطم المهروسة! حمص وغزة تقول هذه السيدة التي أنهكتها مشاهد القتل والقصف اليومي، إن «حمص تحولت إلى غزة جديدة». وتضيف: «المئات من النساء والأطفال يقتلون في الشوارع والساحات». وتتابع بثينة، وهي من بين آلاف اللاجئين الذين عبروا الرمثا مجتازين حقول الألغام والأسلاك الشائكة، أنها لجأت إلى الأردن كونه الأقرب إلى سورية، فالموت كان همها الوحيد. أما محطتنا الثانية فكانت في العاصمة عمان التي تزدحم أحياؤها بالأغنياء والفقراء من اللاجئين العراقيين، وتتسيد اللهجة العراقية في تلك المناطق بشكل واضح. في منطقة عرجان، التقينا العراقي جريس حنا (49 سنة) الذي مر على قدومه من العراق سبعة أعوام، وهو اليوم يعمل مسؤولاً في متجر غالبية العاملين فيه من حملة الجنسية العراقية. يقول حنا: «التقي أصدقائي العراقيين في مقهى قريب من منطقة عملي.. نتحدث في السياسة وما يجري على الساحة العراقية من أحداث دامية». ويضيف والدموع تترقرق في عينيه: «العراقيون في الأردن لم ينسوا بلادهم، فالذاكرة ما زالت تحتفظ بالأيام الخوالي في بغداد والتي كانت بصحبة الأهل والأحبة». ومثل كثيرين، يعيش الحاج مصطفى الأخرس (70 سنة) في مخيم الحسين الذي يعتبر من أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في العاصمة الأردنية. بصوت متهدج، يستذكر الأخرس الذي صادفناه على أبواب المخيم كيف فر إلى الأردن قادماً من قرية السيلة في مدينة جنين الفلسطينية عام 1948، بعد أن اقتحمتها عصابات (الهاغاناه الصهيونية) وأوغلت في سفك الدماء. وعلى رغم كبر سنه وانحناء ظهره الذي أثقلته سنوات النكبة، فإن هذا اللاجئ المسن لا يزال محتفظاً بقواشين الأرض ومفتاح منزله القديم، على أمل العودة ولو بعد حين! النائب في البرلمان الأردني والمحلل السياسي جميل النمري، يقول في حوار مع «الحياة» إن «هناك آثاراً سياسية غير مباشرة خلفتها موجات النزوح التي توالت على الأردن». والأثر السياسي المباشر يمثله «التضخم في أعداد اللاجئين الفلسطينيين». وهنا تعود إلى الواجهة بحسب النمري، مسألة من هو أردني ومن هو فلسطيني، وقضية الحقوق المنقوصة التي تثار بين الفينة والأخرى، باعتبار أن غالبية الفلسطينيين في الأردن يتمتعون منذ عقود بحقوق المواطنة. ويقول أيضاً إن «الضغط على موارد الدولة من قبل مئات الآلاف من اللاجئين، يربك الحكومة الأردنية ويجعلها غير قادرة على النهوض بالتنمية السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية». وفي ما يخص الموجة الثانية من اللجوء السوري، يرى النمري أن توافد السوريين المتواصل إلى الأراضي الأردنية «من شأنه أن يخلق أزمات سياسية بين الحكومتين الأردنية والسورية لا سيما إن غضت السلطات الطرف عن النشاطات التي يقودها لاجئون سوريون على الأرض الأردنية ضد نظام بلادهم». وتشكل حالات اللجوء المتزايدة، ضغطاً على البنية التحتية وموارد الأردن الذي تشكل الصحراء نحو 92 في المئة من مساحته. وتقول المحللة الاقتصادية جمانة غنيمات ل «الحياة» إن «ارتفاع أعداد اللاجئين العراقيين والسوريين في الأردن إلى نحو مليون لاجئ، أثر بشكل ملحوظ على حزم الدعم التي تقدمها الدولة للمواطنين». وتضيف أن «أموال المعونات الخارجية المقدمة للأردن، بدأت تذهب هي الأخرى لمصلحة اللاجئين السوريين». وترى غنيمات أن «400 مليون دولار من قيمة فاتورة الدعم التي توجهها الحكومة للأردنيين، تنفق سنوياً على الخدمات التي يحتاجها لاجئو المملكة». كلفة اللاجئين وتؤكد أن الأردن «يقف على أبواب حال من الاختناق الاقتصادي» في ظل استمرار النزوح من الجارة الشمالية. أما سميح المعايطة، وزير الدولة الأردني لشؤون الإعلام والاتصال والناطق الرسمي باسم الحكومة، فيؤكد أن «تكلفة وجود السوريين في المملكة كبيرة من دون شك، لكن يصعب تقديرها لأن هناك حركة نزوح يومية تزيد الكلفة باستمرار». ويوضح أن «الحكومة تتحمل الضغط على البنية التحتية والمياه والمدارس والصحة وما إلى ذلك». ويعتبر الخبير الاجتماعي حسين خزاعي أن حالات اللجوء التي تعيشها المدن الأردنية، شيّدت جسوراً وعناوين للتفاعل المتبادل بين الأردنيين واللاجئين العرب. ويرى في ذلك أمراً إيجابياً في تبادل العادات والتقاليد. لكنه يتحدث عن بداية تشكل ظاهرة جديدة لزواج الأردنيين من سوريات، ما سيؤثر سلباً على سن الزواج لدى الأردنيات. ويقول إن أكثر من 120 ألف سوري دخلوا المملكة منذ اندلاع الاحتجاجات المناهضة للرئيس الأسد في سورية في آذار (مارس) 2011.