قد يكون أمين معلوف أشدّ أعضاء «الأكاديمية الفرنسية» شهرة وأكثرهم رواجاً، فهو «شرّف» اللغة الفرنسية في نشرها من خلال كتبه التي ترجمت إلى لغات كثيرة، ملبياً «دعوة» الأكاديمية التي لا همّ لها سوى السهر على اللغة الفرنسية والحفاظ على مجد ماضيها في فرنسا وفي العالم الاستعماري القديم... وقد لا ينافس أمين معلوف في شهرته عالمياً أحد من الأعضاء الراهنين، إذا تجاهلنا بعضاً ممن غابوا قبل أعوام ومنهم على سبيل المثل: أوجين يونسكو، مارغريت يورسنار، ألان روب غرييه وطبعاً كلود ليفي ستروس الذي ورث معلوف مقعده. لكن أسماء كبيرة وكبيرة جداً عبرت أكاديمية «الخالدين» في العصور السابقة وفي مقدمها راسين وكورناي ومونتسكيو وإرنست رينان وفيكتور هيغو وسواهم. وفي إزاء هذه الأسماء التي رفعت لواء اللغة الفرنسية غابت عن الأكاديمية أسماء كثيرة هي أشد حضوراً منها وأنفذ أثراً وفي طليعتها على سبيل المثل أيضاً، بودلير وفلوبير ومالارميه ورامبو... وهؤلاء وسواهم، ما كانوا أصلاً ليُرضوا ذائقة هذه «الأكاديمية» التقليدية التي أسسها الكاردينال دو ريشوليو عام 1635 في ظل لويس الثالث عشر. وقد يكون «خالدو» الأدب في فرنسا، خارج الأكاديمية، أكثر ممّن هم داخلها، ومعظم هؤلاء دخلوا «متحف» التاريخ ولم يبق لهم إلا أثر طفيف. كان أمين معلوف مهيّأً للدخول إلى «الأكاديمية» منذ الدورة الأولى أو الثانية اللتين «سقط» اسمه خلالهما، والسبب مناهضته للفرنكوفونية التقليدية التي كان ينتقد ذرائعها وغاياتها غير المقنعة. وقد أغاظ معلوف جماعة «الخالدين» عندما أيّد جهاراً البيان الشهير الذي كان رفعه كتّاب فرنسيون، تقدميون وطليعيون، معلنين فيه «موت» الفرنكوفونية وتراجع اللغة الفرنسية في العالم وبخاصة حيال صعود اللغة الإنكليزية- الأميركية. لكن فوزه أخيراً، في الدورة الثالثة، بدا مقدّراً أو حتمياً، فجماعة «الخالدين» يحتاجون إلى اسم مثل أمين معلوف، يملك ثقلاً عالمياً، وهو من غير شكّ، أدى خدمة جليلة للغة الفرنسية، حاملاً إياها إلى أقطار شتى من العالم المعاصر. والمكانة التي يشغلها أمين معلوف في فرنسا والعالم الفرنكوفوني كان أدركها بعض السياسيين قبل الأكاديمية، ومنهم الرئيسان جاك شيراك وساركوزي اللذان جعلا صاحب «ليون الأفريقي» رفيقاً لهما في جولات قاما بها سواء في لبنان أم في دول أخرى. وكم بدا مخزياً عندما عرّف الرئيس شيراك، لدى زيارته لبنان عام 1996، «رفيقه» أمين معلوف، إلى رؤساء لبنان الثلاثة: الياس الهراوي، رفيق الحريري ونبيه بري. هل يمكن تصور هذا المشهد؟ رؤساء لبنانيون ينتظرون رئيساً فرنسياً كي يجمع بينهم وبين كاتب لبناني، عريق الجذور، عالمي الشهرة، يكادون يعرفونه بالاسم، بالاسم فقط. ولعل هؤلاء استغربوا حقاً أن يرافق روائي رؤساء في مهمات سياسية... غير أن لبنان، رسمياً وإعلامياً، احتفى ب «الحدث» الذي أنجزه معلوف في دخوله الأكاديمية ، كما لم تحتف به فرنسا التي لم تعد تعير شؤون «الأكاديمية» اهتماماً، مع أن الحدث هو فرنسي صرف وليس لبنانياً البتة. الصحافة الفرنسية لم تفرد ل «الحدث» إلا فسحة صغيرة في الداخل، على خلاف الصحافة اللبنانية التي جعلته حدثاً أسطورياً في الصفحات الأولى. ولم تتلكأ الدولة اللبنانية عن صك ليرة فضيّة تحمل صورة معلوف، وقريباً ستصدر طوابع بريد تحمل صورته أيضاً. ونجح معلوف في دغدغة مشاعر اللبنانيين عندما طلب حفر «الأرزة» على «السيف»، أحد رموز الأكاديمية، بالقرب من صورة «ماريان»، أيقونة الثورة الفرنسية. عرف معلوف فعلاً كيف يخاطب اللبنانيين، الفرنسيي الهوى، من قلب الصرح التاريخي، موقظاً فيهم الحنين إلى فرنسا التي كانت لها حظوة كبيرة في وجدانهم العام... ولو قدّر لأشخاص مثل شارل قرم وهيكتور خلاط وشارل حلو وسعيد عقل وسواهم أن يشاهدوا هذا «المنظر» لأصيبوا بالغيرة وربما بالحسد. ففرنسا كانت في نظر هؤلاء، مثلما وصفها سعيد عقل سابقاً «واحة التمدن» و «عاصمة العالم الروحية» و «مستودع الإرث العقلي»... هذا ما كان يؤمن به جيل الانتداب الفرنسي، الجيل الذي ضم شعراء وأدباء آمنوا ب «الخرافة» اللبنانية ونشروها... لكن أمين معلوف يعلم جيداً، مثله مثل الأجيال اللبنانية الجديدة، أن فرنسا لم تبق كما كانت من قبل وأنّ اللغة الفرنسية تعاني حالاً من الانحسار عالمياً وأن «الخرافة» اللبنانية كادت تزول نهائياً ولم يبق من أبطالها سوى سعيد عقل الذي يناهز المئة. عندما دخلت الكاتبة الجزائرية الكبيرة آسيا جبار «الأكاديمية الفرنسية» عام 2005 اختلف المثقفون الجزائريون حول هذا الأمر، ولم يعدّه معظمهم حدثاً، وهاجم بعضهم الأكاديمية ذات «الروح الاستعمارية»، وهجوا الفرنكوفونية وغاياتها المضمرة... ولم يتوان كتّاب كبار مثل رشيد بوجدرة والطاهر وطار عن وصف هذا الأمر ب «المهزلة»، فانضمام آسيا جبار إلى الأكاديمية الفرنسية لن يؤدي أي خدمة إلى الثقافة الجزائرية أو العربية، بل على العكس... اللبنانيون، على خلاف الجزائريين، احتفلوا بهذا «الحدث» ليس بصفته حدثاً ثقافياً بل سياسياً... إنها «الخرافة» اللبنانية التي تشع في العالم، منذ قدموس بحسب بعضهم... وحتى جبران.