كان لا بد ألا تكون مصر استثناء. عاندت كثيراً وارتبكت وتعثرت وغالبت القوى السياسية والعسكرية بعضها بعضاً طويلاً قبل أن تنضم إلى العقبة أو العقبات التي وقف عندها «الربيع العربي». ففي تونس تمكن الإسلاميون من مفاصل السلطة والمؤسسات... ولكن بشراكة مع قوى يفترض ألا تلتقي معها في الأيديولوجيا، وبمواجهة لا تبشر بنهايات سعيدة مع قوى سلفية أكثر أصولية. وفي ليبيا وقف البناء الجديد للنظام ومؤسساته عند حدود التنافس القبلي والجهوي والسياسي والصراعات المفتوحة. أما «الحل اليمني» فلم يكتفِ بتجاوز ثورة الشباب والالتفاف عليها. وقد لا يتوقف عند تقاسم المواقع والمناصب بين القوى نفسها التي كانت تدير البلاد، نظاماً وقوى معارضة تقليدية. قد ينذر بتقاسم البلاد نفسها بين «حراك» جنوبي لم يهدأ و «تمرد» حوثي في الشمال لم يسترح من حروبه المتكررة. وهذا الحل نفسه الذي يريد بعض القوى الدولية أن يعتمده نموذجاً لسورية سبقته الأحداث في هذا البلد لتخط نموذجاً خاصاً، بالمذابح المتنقلة والأرض المحروقة التي لا تهدد بفرز مذهبي فحسب بل تهدد كيان الدولة ووحدتها. قرار المحكمة الدستورية العليا في مصر أعاد الثورة إلى المربع الأول. أبطل القضاء عضوية ثلث أعضاء مجلس الشعب، أي أسقط المجلس كله ملغياً نتائج الانتخابات البرلمانية. وأسقط تالياً الجمعية التأسيسية للدستور التي لم يمر يومان على اختيار أعضائها. هكذا عادت السلطات الاشتراعية إلى يد المجلس العسكري. وفصل القضاء بعدم دستورية قانون العزل السياسي ليبقى الفريق أحمد شفيق في السباق الرئاسي بمواجهة مرشح «الإخوان» محمد مرسي. إنه الصراع المكشوف بين قوى الثورة وخصومها من قوى العهد البائد وما استولدته المواجهات والمماحكات والمناورات و «الخيانات» بين رفاق الميادين والساحات، في الأشهر ال15 الماضية. تعني النتيجة الأولى لهذه القرارات القضائية بوضوح أن المرحلة الانتقالية التي كان يفترض أن تنتهي في الثلاثين من هذا الشهر ستمدد إلى حين إجراء انتخابات برلمانية جديدة. أي أن المجلس العسكري للقوات المسلحة سيظل ممسكاً بمقاليد السلطتين الاشتراعية والتنفيذية. وستعلق إعادة السلطة إلى المدنيين وتطول إلى حين ترتيب المجلس شكل المؤسسات المقبلة التي ستحدد هوية البلاد والنظام المقبل. وقد سارع المجلس إلى إلغاء «التشكيلة الثانية» للجمعية التأسيسية للدستور استعداداً لتوليف واحدة من صنع يديه. فإذا قدر للقوى الإسلامية أن توصل مرشحها محمد مرسي إلى سدة الرئاسة سيكون بمقدور الجيش أن يحدد له صلاحياته عبر هذه التشكيلة الجديدة للجمعية. الدستور كان المعركة الأساس منذ الإعلان الدستوري الذي لم يكتمل في آذار (مارس) الماضي. لن يكون المجلس العسكري مضطراً إلى إعلان مكمل كما تردد منذ أسابيع. يمكن الجمعية التأسيسية أن تتولى هذا الأمر. وهو ما يفتح أبواب المعركة على مصراعيها. وستعيد خلط الأوراق مجدداً. لن تكون خريطة التحالفات والعلاقات بين القوى المختلفة كما كانت إبان الثورة. ولن تكون كما كانت في كل المحطات التي تلت على طريق إعادة بناء المؤسسات. القرار القضائي، مهما قيل عن استقلاله، يضع العسكر في مواجهة القوى الإسلامية التي خسرت الكثير في المحطات الماضية. ولم يعد لها ذلك الالتفاف الذي تحقق يوم الاستفتاء على الإعلان الدستوري ثم يوم الانتخابات البرلمانية. وقراءة سريعة لنتائج الدورة الأولى من انتخابات الرئاسة تثبت مدى الضرر الذي أصاب القوى الإسلامية، خصوصاً «الإخوان» وأنصارهم. حققت هذه القوى في الاستفتاء الذي عارضه شباب الثورة وتيارات ليبرالية وعلمانية ويسارية عدة نسبة فاقت الستين في المئة من المقترعين. وحققت في الاستحقاق البرلماني أكثر من سبعين في المئة من أصوات المقترعين. في حين أظهرت انتخابات الدورة الأولى لاختيار رئيس لمصر أن مرشحي الإسلاميين مجتمعين لم يحصدوا أكثر من 35 في المئة من الأصوات، علماً أن نسبة المشاركة لم تتجاوز الخمسين من أسماء المدرجين على اللوائح الانتخابية. خلاصة هذه القراءة أن القوى الإسلامية لا يتجاوز حجمها الانتخابي الفعلي ربع المقترعين! وتظهر تالياً أن ثمة خريطة جديدة لتوزع القوى تشكلت في الأشهر الأخيرة. ولعل أبرز وجوهها الفريق شفيق الذي انتقل إلى الجولة الثانية على رغم دعاوى خصومه من الإسلاميين وقوى ثورية أخرى أنه من رموز العهد السابق. أي أن الاستقطاب القائم بات شبه انقسام حاد بين الإسلاميين ومن يعتبر نفسه «ابن المؤسسة العسكرية»، لكنه لا يمكن أن ينفي أنه كان آخر رئيس حكومة في عهد الرئيس حسني مبارك. وطبعاً سقط في الجولة الأولى مرشحو التوافق أو الوسطية الذين حققوا نتائج كان يمكن أن تدفع بممثل عنهم إلى الجولة الثانية لو أنهم التقوا على دعم مرشح واحد بعينه. هكذا خرج حمدين صباحي وخرج عمرو موسى وآخرون من السباق. خسر الإسلاميون إذاً ما كان لهم في البدايات، في الاستفتاء على الإعلان الدستوري الذي يحكم العسكر اليوم بموجبه وفي الانتخابات البرلمانية. وإذا تعددت أسباب الخسارة، فإن «الإخوان» لا يمكنهم أن ينحو باللائمة على أحد قبل أنفسهم. هم يتحملون القسط الأكبر من المسؤولية. وعسى أن تكون قرارات المحكمة الدستورية العليا وتداعياتها رسالة إنذار لهم، أو مناسبة تدفعهم إلى إعادة تقويم أدائهم منذ اليوم الأول لاندلاع الثورة وحتى اليوم. لا يمكنهم أن يغفلوا أن سياسة التمكين والسيطرة والمغالبة كانت في أس تصرفاتهم منذ اليوم الأول لاندلاع الثورة. ولا حاجة إلى تذكيرهم بالتنقل طويلاً من الميادين إلى مقر المجلس العسكري. كابروا كثيراً ولم يعرفوا أهمية المشاركة السياسية مع القوى الأخرى، أقله تلك التي فجرت الشرارة الأولى. كان يمكنهم أن يناوروا لاجتياز المرحلة الانتقالية بالتفاهم مع شركائهم في الميادين وليس مع المجلس العسكري. حتى منافسوهم السلفيون أغضبهم تعاليهم وتجاهلهم لحضورهم وقوتهم. أبعد من ذلك لم يقرأ «الأخوان» الذين نكصوا بكل وعودهم الأولى، أن إسقاط «اللجنة التأسيسية الأولى للدستور» كان رسالة واضحة أنه لن يسمح لهم بالسيطرة على كل مفاصل الحكم لا اليوم ولا غداً. لم يدركوا حقيقة أن الحكم شيء والدستور شيء آخر. الدستور وثيقة تتوافق عليها كل مكونات الشعب ويجب أن تراعي مصالح كل هذه المكونات. ولا يمكن تالياً أن تنفرد قوة أو تيار، أو أن تستأثر فئة برسم صورة النظام الجديد ودستوره... وتحديد هوية البلاد. هذا حتى لا نشير إلى مواجهتهم رغبة العسكر في أن يحافظوا على بعض أو كثير مما كان لهم على مر التاريخ منذ ثورة عرابي إلى ثورة 1958 وحتى سقوط الرئيس مبارك الذي عجلت به المؤسسة العسكرية. إن عودة مصر إلى المربع الأول، إلى الانتخابات النيابية مجدداً وربما إلى لجنة تأسيسية جديدة للنظر في الدستور المقبل، في ظل حكم العسكر، تخفف من وهج الانتخابات الرئاسية. وتعتقد قوى مصرية واسعة بأن «الجماعة» لن تحصل في الانتخابات المقبلة على ما حصلت عليه في السابق. بل إن هذا الاستحقاق قد يعيدها إلى حجمها الطبيعي الذي برز واضحاً في نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية. هذا إذا لم يفز أحمد شفيق في الجولة الثانية. وحتى إذا سقط «الفريق» يمكن المجلس العسكري أن يحرم خصمه الإسلامي من أي صلاحيات رئاسية ذات معنى... عن طريق فريق «اللجنة التأسيسية للدستور» الحالية، أو غيرها إذا ارتأى العسكر إلحاق هذه بسابقتها التي أسقطها القضاء.