«القاضي معذور مفيش أدلة» هذه الجملة، المخدر، تتردد بكثافة بعد محاكمة الرئيس المخلوع حسني مبارك والتي أسفرت عن مؤبد قابل للطعن نتيجة لقتل الثوار، والبراءة من تهم الفساد المالي والإداري له ولأولاده ومعاوني وزير الداخلية في عهده حبيب العادلي. بالطبع لست دارسة للقانون، غير أن اعتراضي على الجملة الأولى كمبرر لتخفيف الحكم الذي صدر بشكل صادم للجميع، لا تقنعني، ولا أفهمها سوى كإبرة مسكنة للوجع الذي جثم على صدور أمهات ثكلى وآباء مكلومين. أبدأ بالديباجة الطويلة التي أتحفنا بها المستشار أحمد رفعت، والتي ملأت نفوس مستمعيها بنشوة النصر العارم للثورة، وكأنه صلاح الدين يزف لنا فتح القدس وهزيمة المجوس والفرس. خطبته التي سرقت من أعمارنا عشرين دقيقة أضفناها حباً وكرامة بسذاجة في السلة ذاتها لحساب قديم سلبوه منا منذ ثلاثين عاماً، ما كانت سوى استعراض مسرحي لينال اسمه ورسمه وصوته ولقبه كفايته على شاشات الفضائيات المتابعة، وليرسخ فينا، من دون أن ندرك مذهب التلقين والتحفيظ وسرد الخطب العصماء والشعارات الرنانة والأعيرة «الفشنك»، والتي على ما يبدو كانت كبرزخ سيصل ماضياً بمستقبل يشبهه. تلاها النطق بالحكم، والذي جاء على مبدأ هل آتيكم بالخبر السيء أولاً أم أثلج صدوركم بخبر جميل وندع الكارثة للنهاية فيخفف أحدهما وطأة الآخر. تغلفت الديباجة ضمناً بنقص الأدلة والإثباتات، وانتهى بعد نطق الحكم بخاتمة مفسرة لما نطق به حقاً أو زوراً وبهتاناً. كانت خاتمته كمن زاد الطين بلة، وهي أنه غلبان مسكين اجتهد ولم يجد ورقاً حكومياً مختوماً وموقعاً يؤكد ما بدا من التهم، وأن بعض ما وجده قد تقادم وأسقط عن المتهمين تلك التهم. بصراحة لست أجد من عقلي عقلاً لطفلة صغيرة كي تنطلي علي هكذا حجة. ولن أبالغ وأقول أن الأطفال أيضاً سيدركون، فلست محتالة إلى هذا الحد لأقنعكم بما ليس صواباً، ولست أيضاً داهية من دواهي الزمان كي أمتلك عقلية خارقة في طفولتي. المهم، ولب الموضوع أنني أستوعب أن يحتج القاضي بهكذا حجة لو كان المتهم لصاً مغموراً أو قاتلاً مأجوراً، لم يره القاضي في حياته كلها سوى يوم المحاكمة، فسيكون المسكين حينها حقاً مضطراً أن يلجأ إلى الأوراق والشهادات والإثباتات التي تدينه أو تبرئه. أما أن يكون المتهم شخصية يعرفها القاصي والداني، وسلوك حكمه وظلمه أو عدله واضح ظاهر بائن كشمس لا يخفيها غربال، والأدلة أظهرها الإعلام بصوت وصورة والمدَّعُون بالحق المدني شعب بأكمله، ثم يقال أين الإثبات فهذا عجب عجاب! ولمن يود تذكيري بأن هذا ما نص عليه القانون في دساتيره، فأذكره بأن هذا القانون وضعي من فعل بشر مثلنا أو أغبى منا، والبشر يصيبون ويخطئون، وقانون وضع في فرنسا في ثلاثينات القرن الماضي لا يتلاءم بالمطلق مع حالة عربية في القرن الحالي. من وضع القانون البشري وطبقه أراد راحة الناس وضمان أمنهم وإعلاء مصلحتهم كي لا تضيع الحقوق. ومتى ما أضاع القانون حقاً أو فرط في أمن فهو بالضرورة انتهت صلاحيته وأصابه العطب واستوجب على الفقهاء فيه تغييره. أعجب من أن العالم العربي زاخر بألقاب على شاكلة الدكتور فلان من فقهاء القانون. وأيهم لا يجرؤ على التفكير في مدى صحة القانون وصلاحيته أو تعديله أو ابتكار جديد بديل عنه بما يتناسب مع هذا الزمان وأحواله، وهؤلاء القوم وأطباعهم. وهذه المشكلة عامة في كل العالم الثالث المتخلف، لا في مصر وحدها. وبصراحة لا أجد تفسيراً لذلك سوى أن القضاء تابع للحكومات العربية التي أعجبها حجم ما فيه من ثغرات، وللإمكانية الهائلة من خلاله لإحكام القبضة على الشعوب الساذجة. وبالتالي جمدت العقول الفذة التي قد تصلحه واشترتها بالمال أو اعتقلتها. وأصمت متى ما تذكرت أنه لا جدوى من كل الكلام ما دام حتى حقنا بالكلام مداناً ومصادراً، بل وقد ندان بلا أدلة أصلاً. وأنتهي بمباركة لا بد منها بأمر القضاء. مبروك البراءة أيها الفاسدون بأدلتنا نحن لا بأدلة القضاء!