بالتزامن مع بدء بطولة أوروبا أمم لكرة القدم، أنتجت قناة «الجزيرة» بالاشتراك مع محطات تلفزيونية عالمية برنامجاً وثائقياً عن جمهورية أوكرانيا، بوصفها احدى مضيفتي البطولة الى جانب بولندا. حاول البرنامج تقديم صورة عن واقع البلاد، وثورتها «البرتقالية» التي انتظر العالم منها تغييراً ديموقراطياً، انتهى بعودتها ثانية الى أحضان الكرملين وغَرَقِها في أزمات سياسية واقتصادية حادة، تدعو الى التساؤل: لماذا حدث كل هذا؟ في إحالته الى الجزء الخاص بتنظيمها بطولة أوروبا لكرة القدم يقدم البرنامج جانباً من أسباب الأزمة، فتنظيم البطولة أُريد استغلاله لإشغال الناس عن المشاكل الحقيقية التي تعصف بالبلاد، كما جاء في البرنامج الذي عرضه التلفزيون السويدي تحت عنوان «أوكرانيا من الديموقراطية الى الانهيار». وكمحاولة من قادتها لتحفيز الروح القومية عند الجمهور، المحبط أصلاً، راحوا يبنون ملاعب عملاقة هي الأغلى بين ملاعب العالم، على غرار ملعب الكولوسيوم في روما، الغاية منها التباهي وإبهار الناس لتحويل أنظارهم الى جهة ثانية، لا يرون فيها الهدف الأساس منها وهو ملء جيوب أصحاب شركات البناء العملاقة مثل شركة «دونتسيك» بمزيد من ملايين الدولارات، هي حصتهم من الكعكة، التي استحوذ عليها «الأوليغارشيون» قادة الطغمة المالية الجدد بالكامل، ولم يتركوا للشعب شيئاً منها. جشع بلا حدود المهيمنون على الاقتصاد الأوكراني أنفسهم، والذين لا حد لجشعهم، فضحوا أنفسهم حين راحوا يتاجرون بالبطولة علناً، فظهر رينات أخمدوف في احتفال لمناسبة تدشين أحد الملاعب، وهو الذي يعد نموذجاً سيئاً لصعود الطفيليين الى مصاف رجال الأعمال في أوكرانيا، حاملاً كأس البطولة منتشياً بإنجاز شركته. والفضيحة الأكبر جاءت بعد تصريح رئيسها فيكتور يانوكوفيتش أثناء عرض قدمته إحدى المغنيات المشهورات لمناسبة قرب تدشين البطولة، قال فيه: «نساء البلد من أكبر مصادر الصناعة السياحية عندنا». لكنّ رد الفعل جاء حاداً من تلك النسوة، اذ خرجت آلاف منهن في تظاهرات صاخبة رددن فيها شعارات منددة بهذا الكلام مثل: «أوكرانيا ليست مبغى!». القسم الأكبر من البرنامج يدور حول المراحل التي مرت بها «الثورة البرتقالية» والعوامل التي أدت الى تراجعها، مركزاً في تفاصيله على دور الكرملين والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في وضع العراقيل أمام استمراها، كونها مثلت بالنسبة إليهما تحدياً وخروجاً عن فلكهما. كما أحدثت شرخاً إستراتيجياً في العلاقة بين البلدين وشكلت تهديداً لمصالح الروس القومية من خلال اعلان بعض قادتها رغبتهم في الانضمام الى حلف الناتو، بل أكثر من ذلك، كما قال أحد المحللين السياسيين في كييف، اعتبروها موجهة بالأساس ضد جمهورية روسيا، وأن أهدافها المعلنة كانت تخفي تحتها أهدافاً أخرى. مسار الثورة يكشف غير ذلك، فهي انطلقت بدوافع وطنية أرادت بناء تجربة ديموقراطية شبيهة بالتجارب الغربية، لكن ثمة عوامل كثيرة ساعدت على تحوير هذا المسار لتنتهي إلى عكس ما بدأت. واحدة من مشاكلها تمثلت بأحد أشهر قادتها فيكتور يوشينكو الذي تولى رئاسة البلاد، بعد انتخابات كانون الاول (ديسمبر) 2004. لقد ظهر بعد أشهر من توليه الحكم وتعرضه لعملية تسميم متعمدة، ضعيفاً ومتردداً في المضي بمشاريع الإصلاح التي أعلن عنها، وسرعان ما نشب خلاف بسببها بينه وبين رئيسة الوزراء يوليا تيموشينكو، التي وُضعت غالبية الصلاحيات بيدها وكانت أكثر حماسة منه في إنجاز أهداف «الثورة البرتقالية». تآمر على الثورة يكشف البرنامج كيف لعبت أجهزة النظام السابق ورئيسه ليونيد كوتشما، وقبل وصول القادة الجدد، دوراً استباقياً تمثل في بيع مشاريع اقتصادية كبيرة الى قادة الطغمة المالية الأوكرانية، وفي ما بعد ومن دون علم الحكومة الجديدة، قاموا بإجراءات سمحت لهم بخصخصة أكبر المصانع مثل مصنع الحديد والفولاذ تمهيداً لبيعها الى الخارج. ويورد البرنامج قصة مقتل الصحافي المعارض جورجي جونجادزي كدليل على فساد أجهزة الدولة وتردد رئيسها الجديد. فبدلاً من استمرار التحقيق في أسباب موته، عطل سيره. اما اصحاب رؤوس الأموال فمنعوا أي عملية إصلاح تريد رئيسة الوزراء القيام بها، وشجعوا، بالعكس، على نشر الفساد. لقد بدأ المرض يسري في جسد الدولة ورجالاتها، وهذا ما كانت موسكو تنتظره، فحركت موضوع أنابيب الغاز المار عبرها وطالبت أوكرانيا بسعر أكبر لمنتجاته يزيد ثلاث مرات على ما كان عليه. ثم جاءت أحداث جورجيا لتعطي روسيا دوراً أكبر في السيطرة على البلاد، نجحت بعدها في توقيع معاهدة لتأجير أساطيلها البحرية لسنوات، ثم وافقت على إبرام اتفاقات اقتصادية زادت من ارتباط أوكرانيا بالكرملين. باختصار نجحت روسيا في استعادة أوكرانيا، بل وكما وصف سياسي غربي «مرة أخرى احتلت روسيا أوكرانيا ولكن هذه المرة بقوة الاقتصاد لا السلاح». وفي خطوات استكمالية دعم الكرملين السياسي فيكتور يانوكوفيتش ليدخل كمنافس لرئيسة الوزراء في الانتخابات الرئاسية، وحين فاز بها حوّل البلاد برمتها الى شركة تابعة له، وسلم مفاتيحها الى موسكو بوصفها أكبر شركائه. لقد رسخت فترة حكمه واقعاً زاد فيه الفقراء فقراً واغتنى اللصوص والطفيليون المقربون منه، بما نهبوه من مال وثروات طبيعية، بشكل لم تعرفه البلاد من قبل. وذهبت «الثورة البرتقالية» الى اتجاه آخر ولم يبق من ثوريتها شيء ينفع الناس المتحمسين لها، لهذا بدأت تظهر حركات شعبية شبابية جديدة تريد تخليص البلاد من ارتباطاتها الروسية وتحقق الديموقراطية، فتجربة ثماني سنوات برهنت لهم أن لا إصلاح مرجواً من الفاسدين ولا من بطولات كروية تقام لأيام في بلادهم.