هذه عودة بالذاكرة شهوراً إلى الوراء، في ظل ما تشهده سورية اليوم من عنف نجح النظام في فرضه خياراً لشرائح من الشارع السوري الثائر، وإن بنسب محدودة ومتفاوتة. إنها وقائع مستوحاة من تجربة مدينتي حماة والسلمية التي تقع قريبة منها. السلَمية مدينة تقطنها أقلية طائفية من الأقليات في سورية هي الطائفة الإسماعيلية، وهي أكثر الطوائف انتشاراً بين أهالي المدينة وريفها. كانت مدينة «السلَمية، وسط البلاد، ولا تزال حتى اليوم ملاذ النازحين إليها من مدينتي حمص وحماة، ومن حماة بشكل خاص. تجاوز عدد النازحين من حماة إلى السلَمية العشرين ألف نازح. هبّ أهالي السلَمية بمن فيهم المعارضون الصامتون لتأمين منازل للنازحين في صيف 2011، في الوقت الذي حاول الشبيحة فيه إقامة حواجز على مدخل المدينة لمنع العائلات الحموية من الدخول، مدير شعبة الهلال الأحمر في السلمية، الموالي للنظام طبعاً، تحدث على وسائل الإعلام السورية ما مفاده بأن الهلال هو من قام بتأمين النازحين الذين نزحوا خوفاً من «العصابات الإرهابية المسلحة». بعدها طلبت شعبة حزب البعث في المدينة مستندات وأسماء النازحين بحجة تقديم مساعدات. رفض الناشطون ذلك بالطبع. أيضاً، ورغم الوضع الاقتصادي السيء للأهالي في السلمية، كان يتم تأمين سلة غذائية مميزة لكل عائلة من النازحين عبر تبرعات عينية لهم، مع رفض الناشطين والأهالي قبول أي مبلغ مالي من النازحين مقابل السلل الغذائية أو كأجار للبيوت التي سكنوا فيها. الأهم عدم حصول أية إساءة لأية عائلة نازحة، وكانت المعارضة في السلمية هي التي تتولى هذا الجانب، والجدير بالذكر وجود بعض العائلات الحموية المؤيدة للنظام، والتي كان يتم التعامل معها من قبل النظام كما باقي العائلات المعارضة له. حدث أكثر من عشر عمليات ولادة للنساء الحمويات في مشافي السلمية الحكومية والخاصة تمّت تغطية تكاليفها من النشطاء. كانت العبارة الأشهر «فلوس وناموس ما بيجتمعوا»، كناية عن تقديم المعونة الإنسانية بعيداً من قبض ثمنها. ذلك تعبير واضح عن طبيعة الجو الاجتماعي والأهلي الذي يصبغ المدينة الواقعة على تخوم البادية السورية. أضف، أنه تصادف نزوح أهالي حماة إلى المدينة مع حلول شهر رمضان، فكان أهالي السلمية يعدّون طعام الإفطار للنازحين ويرسلون لهم الطعام إلى منازلهم، أو يقومون بدعوتهم إلى الإفطار في بيوتهم... وفي الوقت الذي تلقت فيه حماة الضربة الكبرى في آب (أغسطس) 2011، قصفاً وحصاراً، طلب أهالي حماة تبرعات بالدم للمشافي الميدانية والحكومية، فتمّت تلبية الطلب من أهالي السلمية وتمّ التبرّع في المشافي الحكومية وبعيداً عنها. قرّر النشطاء والمعارضون المواجهة مع النظام إن هو عمد إلى تعكير صفو المدينة عبر الاعتداء على أي عائلة حموية، رغم أن النشطاء أنفسهم كان يقفون موقفاً أكثر ليونة عندما كان يتمّ الاعتداء على أحدهم من قبل الأمن أو الشبيحة. شارك نازحو حماة في السلمية شباباً وشابات في تظاهرات السلمية، وفي إحدى التظاهرات أمسكت إحدى النساء الحمويات المحجبات بالمايكروفون، وألقت كلمة ختمتها بدعاء مؤثر أبكت فيه المتظاهرين وأشعلت في صدورهم الغضب والحمية، فارتفع، ولأول مرة هتاف «ابن الحرام باع الجولان»، وكان من الهتافات التي يتم تجنبها في تظاهرات المدينة، والتي كان يتم انتقاء شعاراتها وهتافاتها بعناية بالغة. كان ناشطو السلمية وناشطاتها يقفون منذ ساعات الفجر في طوابير طويلة على الأفران لشراء الخبز للنازحين، ذلك أن النظام منعَ شراء أكثر من ثلاث ربطات خبز لكل مواطن، وبعد شراء الخبز، كان يتم جمعه في مكان واحد ويتم إرساله إلى مدينة حماة. لكن، وطالما وجدت حالة تعايش وتضامن أهلي وطني بين نازحي حماة وأهالي سلمية، كان من الطبيعي أن يحاول النظام قطع الطريق على هذه الحالة، لذا قام بفتح مدارس لاستيعاب النازحين الجدد دون أن يلجأ إليها أو يقصده لذلك أحد النازحين من المدينة، إضافة إلى انه كان يرسل الشبيحة وعناصر الأمن إلى بيوت أهالي السلمية لمعرفة هوية النازحين اللاجئين، غير أنه جوبهَ برفض أهالي البيوت وقيامهم بطرد هؤلاء في غالب الأحيان. لقد أحيت مدينة السلمية عبر يوميات الثورة السورية فيها ما عرفت به تاريخياً، مدينة للمعارضة، مدينة للحب والشعر، مدينة الوطنية والتعايش الأهلي والاجتماعي بين السوريين، وهي تقدم دلالة بالغة على وطنية الحراك السوري ولا طائفيته، بعكس تسويق النظام السوري وإعلامه للثورة منذ بداياتها باعتبارها «أزمة تفتعلها عصابات إرهابية مسلحة ومجموعات طائفية تهدف إلى زعزعة الأمن والاستقرار في البلد»، بحسب التلفزيون الرسمي وفضائية الدنيا كما يعرف الجميع. * كاتب سوري.