ما يحصل في سورية الآن مع تصعيد حرب النظام ضد الشعب السوري وتتالي مجازره لا يحتمل التأويل. نظام قرّر الذهاب إلى حتفه عبر نفق الأرض المحروقة لكن ليس قبل أن يحفر بماكنته العسكرية قبوراً جماعية لأناس ما اختاروا الموت بل فُرض عليهم فرضاً فيما لم يتجاوز البعض منهم موسماً أو موسمي ثلج وربيع. مجازر الأيام الأخيرة علامات دموية لما قد يتطور لاحقاً بأيدي نظام أعلن الحرب على شعبه وعلى وطنه الخراب. فما الفائدة من مناكفة الشاشات أو عدسات الكاميرا أو الهواتف المحمولة والاستماتة في تفنيد صورها وأصواتها! ما الفائدة ما دامت المسألة تعدت سؤال العروبة والثورة والمقاومة والاستعمار الجديد والقديم والعمالة وعروش النفط وما أشبه من كلام يُراق بيُسر كالدم ويفتك بمعانيه كالأرواح في سورية! يُفسّر لنا الحاصل في سورية الآن وردود الفعل عليه بشكل جليّ كيف حصلت مجزرة الأرمن وكيف وقعت المحرقة، وكيف حصلت حرب الإبادة في الصرب أو رواندا، وكيف حصلت النكبة ومفاعيلها المستمرة إلى الآن. فقد كانت هناك كما الآن معادلات وموازين قوى أتاحت للفاعل كل الوقت وزودته بكل أدوات الجريمة. وقد كان هناك كما الآن في سورية نظام حاكم ونظرية مكتملة وغسل أدمغة وقسر وإرهاب تؤلّف ماكنة تُخضع الإنسان وتضطرّ الفرد على أن ينصاع لجبروتها وأن ينصهر ك»أنا» في «كل» وحشي. هناك، وهنا في سورية يصير الإنسان ضحية مرتين، عندما يقتُل وعندما يُقتَل بنار الأخوة! هنا وهناك رأينا كيف يصير تأييد المجازر والقتل المنهجي مجرّد وجهة نظر وفلسفات مدعومة بتنظيرات من علم النفس والسياسة والتاريخ. هناك وهنا في سورية التي في الجغرافية وتلك التي في القلب أناس احترفوا تشغيل آلة الكذب والدجل والمماحكة الإعلامية بحجة وجود ماكنات مماثلة تعمل باتجاه آخر. هناك وهنا في حماة والحولة يُسجّل الإنسان الذي قال عنه برنارد شو أنه مُبدع في فنون القتل مشاهد مروّعة باسم «قيم» أو «مبادئ» أو «مقدّس». هناك كما هنا يداس الإنسان وكرامته وجثثه وموته بحجة «الأهداف النبيلة» إياها، الهوية وأمن الوطن والمقاومة وما شاكلها من تمثيلات حزّ نظام الأسد نفسه أعناقها وكواها بالتيار مدة خمسة عقود! الجمود في موازين القوى العالمية لا يجعل روسيا أفضل ولا الصين أكثر عروبة من قطر أو السعودية. ولا هذا هو السؤال أصلاً. فليس مهماً لغرض اتخاذ موقف من مُحدث المجزرة، الذي يعدنا بمثلها وأفظع، أن نفحص هوية داعميه من اللاعبين الدوليين ولا هوية مناهضيه. فهي إدارة لمفتاح النقاش على محور غير المجزرة ومشهدها المروُع والانحراف بمعيار الحكم على الأمور إلى موضع الضباب والخطأ. فالشعب السوري المنتفض ضد طاغية مستبدّ ونظرية عقيمة في الحكم والعروبة والمقاومة وممارسة معطوبة للسلطة والإدارة الاقتصادية والسياسة ليس بطلاً ولا أسطورة وإنما شعب اختار أن يشارك شعوباً عربية أخرى الولادة من جديد. شعب قام بعد عقود استطاع النظام خلالها أن يغلق في وجهه كل أبواب التغيير سلمياً أو «طبيعياً». عقود فُصّل فيها الدستور وكُسر متنه ليلائم مقاس النظام ورأسه، ورُهنت البلاد لمصالح النظام وصودرت الحقوق كلها كرمى للنظام. هل يُمكننا - إلا إذا كنا من أصحاب الأخلاقية المثقوبة والفكر الأيديولوجي المعطوب - أن نطالبه بخاصة بعد هدر دمه واستباحة حيوات 13 ألفاً من أبنائه أن تظلّ حركته سلمية ترش الأرزّ والورد على عساكر مدرّبة على الفتك! وهل يحق لأحد أن يُطالبه بعدم التسلّح من أي مصدر كان لتوفير ولو بعض الحماية لمناطق ريفية نائية أو أحياء مدينية من بطش النظام! هل يحق لأحد بخاصة من خارج سورية ممن يجلسون وراء طاولاتهم مرفهين وفوق رؤوسهم خرزات زرقاء من عيون الحاسدين، أن يقولوا لهذا الشعب المنكوب، تريث قليلاً ريثما تمتلك إيران قنبلتها النووية! أو تريث واصبر ريثما يفقأ النظام عين لائميه وينتصر على القوى الدولية المعادية! مثل هذه المواقف تماماً رافقت الحالات التي شهدت المجازر والكوارث السياسية المذكورة بحق الشعوب. ومثلها تماماً تشكل غطاء للمجازر وفاعليها وتمدّد لهم ليُتموا ما بدأوه أو لينجزوا منه ما أمكن! المسألة السورية لم تبدأ مع الربيع العربي. فطبيعة النظام معروفة وتصنيفه العلم - سياسي معروف. وهي ليست حدثاً يُقاس بالعروبة ومدى سريانها في العروق أو بموقف روسي انتهازي أو إيراني أكثر انتهازية ولا بموقف قطري أو أميركي يريد الاستفادة من الأزمة ولا بجمود دولي يكشف بؤس هذا التجلي من تجلياتها، بل بميزان حقوق الشعوب في تغيير حكامها لا سيما إذا كانوا دمويين على هذه الشاكلة، حقّ الشعوب في أن ترفع صوتها وإن لم يكن المناخ الدولي مسانداً أو المجتمع الدولي مستعداً للتدخل، حق الشعوب في أن تكون حرة من كل طغيان ولا يهمّ بأي حجة يأتي ويتمدّد، حق الشعوب في أن تقول لا، حق الشعوب في أن تحقق ذاتها موفورة الكرامة الإنسانية.