تدقّ ساعة جامعة القاهرة معلنة السابعة صباحاً، ولكن أين وقع الخطوات المتئدة التي ظلت تصاحب دقاتها تلك وصولاً إلى «معشبة» كلية العلوم لأكثر من نصف قرن؟ في تمام السابعة وخمس دقائق كنت تجد العالم الراحل الدكتور محمد عبدالفتاح القصّاص جالساً إلى مكتبه في حجرته الصغيرة البيضاء إلى يسار مدخل المعشبة، وإلى جانبه عصاه وقبعته القماش المميزة التي تشبه تماماً قبعة الصيادين. وترتصف حوله كتب ودوريات، يلفّها عبق أوراق نباتات جافة، وملفات قديمة على الأرفف. كان باب القصّاص مفتوحاً دوماً، في انتظار طلاب العلم وبحاثّة بيئيين. كان شرطه الوحيد الحضور مبكراً إلى صومعته، أي قبل السابعة والنصف صباحاً. هموم القرن الأفريقي اهتم القصاص بالمجاعة والجفاف اللذين ضربا الصومال أخيراً. ودأب على تأكيد وجهة نظره القائلة بأن المِنَحْ والمساعدات الدولية، تنتظر الكوارث كي تتحرّك، ما رأى فيه خطأً قاتلاً. وحثّ على وضع خطط استباقية تبدأ بتحديد النظم الطبيعية في المناطق الهَشّة بيئياً، وتقويم قدرتها على مواجهة حوادث متطرّفة مناخياً مثل نوبات الجفاف الحادّة. ورأى أن هذه الخطط يجب أن تشمل مشاريع للتنمية المستدامة، وحفر الآبار، وإعطاء خدمات اقتصادية واجتماعية للمزارعين والرعاة وغيرها. وليس مبالغة القول ان القصّاص كان صوتاً رائداً ارتفع في وقت مبكّر للتنبيه الى كوارث البيئة وآثارها الوخيمة على الطبيعة والسكان. وأطلق هذه الصرخة قبل سنوات من اندلاع الصراع في منطقة دارفور في السودان. وحينها، دعا القصّاص إلى التنبّه الى موجات الجفاف المتواترة شمال دارفور، معتبراً إياها مقدّمة لرحيل السكان وهجرتهم مناخياً، وتمهيد قاسٍ للصراع على الكلأ والمرعى في ما بينهم. وجاءت الأيام لتصدّق رؤية القصّاص في تحوّل المناخ مصدراً لحروب البيئة، بفعل الأثر الثقيل الذي تلقي به البيئة على البنى الاجتماعية، خصوصاً مع غياب التنمية المستدامة. وعمل القصّاص على نشر الوعي بفكر التنمية المستدامة مصرياً وعربياً، عبر محافل علمية وبيئية وإعلامية شتى. ولطالما ردد أن البشر يطلبون حاجات جمّة من نُظُم الطبيعة، ما يعني أنهم يمارسون عليها ضغطاً مستمراً، ما لا يتناسب وقدرتها على العطاء. واستطراداً، حثّ القصّاص دوماً على ضرورة التعرّف الى القدرات الفعلية لنُظُم الطبيعة، ومدى قدرتها على تلبية حاجات المجموعات البشرية التي تعتمد على تلك النُظُم. سحر النيل سافر القصّاص مع النيل مستكشفاً منابعه ودلتاه ومستنقعاته الجنوبية وبحيراته الشمالية. واهتم بدراسات الأراضي الرطبة، وما تحويه من ثروات طبيعية وتنوّع بيولوجي Biodiversity. ودعا إلى جعل النيل محميّة طبيعية والى الاهتمام بجزره. ودقّ أجراس الإنذار محذراً من المخاطر التي تتهدّد النهر، داعياً إلى تخفيض الملوثات التي تلقى فيه وتطوير نُظُم الري المتصلّة به، وتعظيم الاستفادة من كل نقطة ماء فيه، وترشيد استهلاك مياهه إلى الحدّ الأقصى، وإجراء دراسات وافية عن تأثير التغيّر في المناخ على منابع النهر ومياهه. وثابر على الدعوة الى التعاون مع كل دول حوض النيل. ودعا إلى صوغ نوع من «عقد اجتماعي بيئي» جديد بين المصريين والنيل، يكون مرتكزه ثقافة الترشيد في التعامل مع مورد الحياة في مصر. في السياق عينه، استنكر القصّاص بشدّة مشاريع نادت بتوصيل مياه النيل إلى المناطق الساحلية على المتوسط. ودعا إلى استعمال تقنيات تحلية البحر في تلك المناطق، على أن تكون في وحدات صغيرة، تعمل بالشمس والريح، ما يتناسب مع التكوين الديموغرافي لهذه المناطق. ومن أكثر المواضيع المتعلقة بالنيل التي اهتم بها موضوع «بحيرة ناصر» (وهي البحيرة الاصطناعية الأضخم عالمياً). وثابر على المناداة برفع اليد عن «بحيرة ناصر»، محذراً من مخاطر التنمية العشوائية على حواف البحيرة، لأنها قد تؤدي الى تدميرها. ورأى القصّاص في «بحيرة ناصر» خزان مياه لمصر، بل أوضح أنه بفضلها استطاعت مصر أن تظل بعيدة من ضغوط البيئة وآثار السدود التي بنيت عبر مسار النيل. في المقابل، حثّ على وضع دراسات معمّقة عن الآثار البيئية ل «بحيرة ناصر» من المناحي كافة، إذ اعتبر أن وجود آثار جانبية للمشاريع العملاقة يشكّل أمراً بديهياً ومعروفاً وقابلاً للتعامل معه. في السياق عينه، سجّل القصّاص ملاحظات عدّة حول «السدّ العالي» أثناء بنائه في ستينات القرن العشرين. وحينها، دعا إلى التوسّع في الدراسات العلمية حول التأثير البيئي لإقامة السد لمحاولة إيجاد حل لمشكلة حجز ال «طمي» الذي يأتي سنوياً حاملاً تربة خصبة ومتجددة الى المناطق التي يرويها النيل، وضمنها الدلتا، ما يقوي تلك الأراضي ويحصّنها حيال هجمات البحر المتواصلة، وحينها، لم يستجب إليه أحد. ونادى القصّاص بالتعاون والتكامل بين دول حوض النيل، إذ كان يؤمن بأن التعاون بين البلدان المتشاطئة على النيل يشكّل السبيل الوحيد لحماية النهر. وحضّ تكراراً على الاهتمام بمنابع النيل، ما ولّد لديه حزناً عميقاً سببه عدم احترام قادة السياسة للعلماء، وتجاهل صنّاع القرار الحلول التي يقدّمها العِلم للمشاكل أساسية، مثل مشكلة الفاقد من مياه النيل. ودأب على الإشارة إلى أن الموارد المائية لحوض نهر النيل تبلغ سنوياً 1600 بليون متر مكعب، لا يُستفاد إلا من 5 في المئة منها. وفكرّ دوماً في أن في حوض النيل إمكانات هائلة للمياه، وقوى ضخمة كامنة لتوليد الطاقة، لكنها كلها رهن استماع الساسة لآراء أهل العِلم. ودعا أيضاً إلى تطوير مفهوم التفاوض بين الدول المتشاطئة على النيل، كي يشمل العلماء وممثلي المجتمع المدني وخبراء تقنيين واختصاصيين في تكنولوجيا المياه والأراضي. ورأى في هذه المروحة الواسعة من التفاوض مدخلاً فعلياً وعلمياً لإيجاد حلول للمشكلات العالقة بين دول حوض نهر النيل. ربما رحل القصّاص وفي نفسه شيء من غصّة العلماء لعدم إنجاز المزيد. إذ عُرف عنه انشغالة في الهزيع الأخير من حياته بإتمام دراسة وافية عن إمكان ربط نهري النيل والكونغو. وفي البُعد العربي، شغلت القصّاص قضية ندرة المياه في دول هذا العالم. ورفع الصوت منادياً بضرورة تكاتف جهود الدول العربية في مجال البحث العلمي لإيجاد حلول لمشكلة تحلية مياه البحر، مُشدّداً على دور الإمكانات العربية في هذا المجال الحسّاس، الذي رأى أن ليس من الحكمة أن يترك معتمداً على التقنيات المستوردة وحدها. وعبّر مراراً عن استغرابه لعدم نيل هذا الأمر حظاً كافياً من اهتمام صُنّاع القرار، على رغم أنه أمر حاسم في مستقبل شباب العرب.