مدن الضوء واللون هي المدن الوهمية التي تنقلنا إليها ريشة الفنانة التشكيلية مانويللا الإبنة الصغرى للراحل الكبير بول غيراغوسيان، التي تقيم معرضاً لأعمالها الجديدة في غاليري ايماغوس، تطرح فيه علاقتها بالمدن التي عاشت فيها متنقلة ما بين بيروت وباريس ونيويورك ولوس انجليس ودبي. وهي علاقة وجودية متصلة بمسألة الانتماء والتجذر في الأمكنة والإقامة الموقتة والانتقال والسفر والهجرات، لذا تنتابها الذكريات والتأملات والملاحظات والمشاهدات والجروح الإنسانية احياناً، لكنها أيضاً الأبنية الجميلة الضاحكة التي نسكنها ونعيش فيها وتحمل ماضينا وبصماتنا وأذواقنا، وهي من أكثر المناظر التي تخاطب عيوننا في عصرنا الحاضر. في 35 لوحة (أكريليك وزيتيات وميكسد ميديا)، ثمة حركة عمودية تهيمن على كل الأعمال في تآليف تبتغي الإيحاء بالنهوض إلى الأعلى، كي تتناسب وفكرة الأبنية التي ما زالت قيد الإنشاء، بما يشكل حالاً من الإيهام بمدى الارتقاء والتقدم العمراني، على غرار البناء الدائري الذي يعكس نموذجاً للأبراج الضخمة المعقودة على تكنولوجيا الهندسة المعمارية في دبي. غير أن حقيقة الأمر مرتبطة بالطبيعة الإنسانية وحركة انتشارها وتمددها وحاجاتها إلى البناء. فالنزهة في المدينة تحيل الى الاكتظاظ وأحياناً الى الفوضى. إنها في نهاية المطاف المباني الإسمنتية المتلاصقة والناطحات التي تكاد تحجب الشمس كما تحجب زرقة السماء. تتراءى الأشكال في تصاميمها متقاطعة بقوة، تَقاطُع يظهر ما بين الدوائر والأقواس والمربعات والمثلثات، على وقع ضربات اللون وانفعالات الريشة، فتبدو الأبنية كعالم يترنح، في تمايل مشغوف بالألوان الصارخة والزخارف المنمنمة، لكأنها مبنية من حطام أشكال واهنة، حيث تتكئ الدعائم بعضها على بعض، في تشييد يكتنفه الفراغ ويتحكم به. هكذا تبدو الرؤية مهزوزة وواجهات المباني تكاد تتداعى في علوها المفرط. ولئن كانت ملامح هذا الموضوع قد ظهرت إلهاماته في دبي، فإن النظر الى هيكلية الأشياء غير الكاملة، وهي في طور النشوء، قد جاء نتيجة الإحساس بالغربة والفراغ وعدم الاستقرار والصدمات العاطفية التي تلقتها الفنانة دون أن تقوى على البوح بها إلا من خلال الفن. قباب وأعمدة، دعائم وجسور، أروقة وأبراج ونواقيس، في مدن طفولية زاهية بالألوان كأنها آتية من عالم الخيال، بعيداً من عالم الهندسة والمنطق وقريباً من اللعب والتحطيم والتفكيك والتلطيخ الحر وسيولة اللون. سطوح ونوافذ، ليل ونهار وضوء أصفر يسطع بقوة في سماء مدينة من أبنية شاهقة بلا هوية ولا خصائص حضارية، لا شرقية ولا غربية. فالتشابه هو من سمات المدن الكبرى وعلى الخيال أن يتجاوز عناصر الواقع لتلبية رغبات العين العطشى للامتلاء من الألوان المشبعة والمتصادمة والمتناغمة، في دمج بين الحار والبارد، كما الحلو والحامض. هكذا تستعيد مانويللا في أعمالها طفولتها الضائعة في نزعة متحررة من كل القيود العقلانية، ورغبةٍ جامحة في التعاطي مع الموضوع برؤية اختبارية وتقنية تعتمد على التلقائية التي تبرز على مستوى طريقة التخطيط والتلطيخ والتلوين. لم يكن بالإمكان الانتقال من التشخيص والواقعية في الرسم واحترام الشكل بمقاييسه الأكاديمية إلى التجريد اللاشكلاني القائم على الارتجال، لولا الطفولة الكامنة في نفس مانويللا، التي منحتها الجرأة في التعبير وكسر الخوف والارتماء بلا عواقب على سطح القماش، بحثاً عن المتعة واللعب في اكتشاف ليس طاقاتها في الرسم والتلوين، بل كيفية استدعاء ظلال الأب الغائب الذي تفتقده كإبنة مدللة عاشت في كنفه وحنانه وتوجيهاته ونصائحه. كان بول يصطحبها معه دوماً في كل المناسبات ويتركها تشغل وقتها بالخربشة والرسم، وهو الذي علّمها كيف يكون الفن صديقاً وفياً. تقول «كنت أخاف من التجريد لأنني تعلمت طوال سبع سنوات في جامعة كاليفورنيا تقنيات تصوير الشرائط المصورة، ما جعلني أتعلق أكثر بالموضوع وقواعد الشكل. كان لا بد من المغامرة والخروج عن المنطق التقليدي للتصوير. وحين بدأت ارسم على أحجام كبيرة شجعني إخوتي على التجريد. بدأت أختزل وأفكك الأشكال وأهيم بالحركة. بت أفهم أكثر من ذي قبل التجريد في فن والدي». ثمة مشاعر لا واعية تظهر في تداعيات الأمكنة وعلاقتها القديمة وربما اللاواعية بذاكرة الحروب والهجرات، التي عرفتها مانويللا على مدى أكثر من جيل، من حكايات العائلة وهجراتها، إلى مآسي الحرب اللبنانية التي عاشت فصولها برفقة والدها، هذه الرفقة التي شكلت وعيها الأول للفن، وذخيرتها التي تدفعها لاقتحام بياض القماش باندفاع كبير لتحقيق الذات. ولئن كان التأليف العمودي هو القاسم المشترك بين أبنية مانويللا ونساء بول غيراغوسيان، غير ان مانويللا استطاعت أن تحوك من حكايتها الخاصة مع المدن عالماً جميلاً، من أبنية ملونة وزاهية مثل فساتين عرائس الدمى.