الذي يشاهد الفضائيات في الشرق الأوسط يظن ان جميع الدكاترة هناك يظهرون على هذه الشاشات حيث لا يخلو برنامج واحد، حتى لو كان برنامجاً للرقص الشرقي، إلا وفيه «دكتور». يبدو أن الألقاب هي أهم بكثير من أصحابها في تلك البقعة من العالم على رغم ان الشخص هو الذي سعى وجاهد حتى نال تلك المرتبة العلمية واللقب المرافق له. ونلاحظ أن اسم الشخص يتبخر وهو في ريعان الشباب بينما اللقب يستمر في ركوب صاحبه الى آخر نفس في حياته. في تلك البرامج النقاشية يبدأ مقدم البرنامج بتقديم المشاركين بأسمائهم للمشاهدين كالعادة. بعد ذلك تغيب الأسماء ويخاطب الضيوف بعضهم ب «دكتور» حتى يشمل ذلك مقدم البرنامج بل أحياناً المشاركين بالهاتف. ويضيع المشاهد المسكين بين هؤلاء «الدكاترة»... نعم دكتور... لا لا يا دكتور... أرجوك دكتور... يا دكتور على مهلك... الخ. كأنك في عالم الجن... لا أسماء. في اليوم التالي عندما يلتقي الأصدقاء ويأتي الحديث على أحد تلك البرامج، حيث لا يعرف الكثيرون أسماء المشاركين ليقولوا: ذاك الدكتور أبو الصلعة، أو الدكتور الذي كان يشتم، أو ذلك الدكتور البليد أو ذلك الذي كان يزعق... الخ. المصيبة أنك لا تعرف مجال اختصاص «الدكتور». هل هو دكتور في علم الرقص؟ أم في الفول والفاصوليا أو في علم التهريج؟ المهم هو «دكتور»، وكفى. كثيرون من مقدمي البرامج يعتقدون بأن مناداة الضيوف ب «الدكتور» تضفي على البرنامج هالة من التبجيل والاحترام والجدية غير عابئين بالمستوى الثقافي والعلمي للمشاركين. هناك الكثير من الضيوف يظهرون ضحالة في الفكر والطروحات والمستوى المعلوماتي تؤذي المشاهد والذوق العام... ولكن ما شاء الله «دكاترة». في المقابل هناك آخرون يبرزون بأخلاقهم العالية وعلو شأنهم في المستوى الفكري والعلمي والمعلوماتي، هؤلاء يظهون بالاحترام والتقدير حتى لو أسبغت عليهم لقب «راقصة» بدلاً من دكتور. عندما انتقلت الى دمشق للدراسة في كلية العلوم عام 1968 فوجئت بحادثة لا أنساها مدى الحياة. نحن الطلاب كنا مبتدئين في الجامعة. وكما هو معروف كنا نخاطب كل من يلقي علينا الدروس ب «أستاذ»، وهي عادة اكتسبناها لمدة 12 عاماً في مراحل الدراسة السابقة. ومرة نادى أحد الطلاب الاستاذ الجامعي ب «أستاذ» فرد «الدكتور العظيم»: «استاذ براسك يا غبي، هل تظن أنك لا تزال على مقعد الثانوية؟». تصوروا مدى احتقاره لأساتذة الثانوي، وهؤلاء كانوا أساتذته قبل سنوات خلت، قبل أن يصير «دكتوراً»، اللهم إلا إذا كان يعتقد بأنه آت من المريخ. بعدها درست الطب في جامعة اسطنبول. هناك دهشت عندما وجدت ان الجميع ينادون البروفسور بلقب «خوجة» اي استاذ بالتركية، وهو اللقب نفسه المستعمل في كل مراحل الدراسة، من الابتدائية فصاعداً. و«خوجة» كان لقب أئمة الجوامع ورجال الدين منذ العهد العثماني ولا يزال، وكذلك تطلق على جميع أساتذة التعليم ويشير باختصار الى «الذي يعلّم الآخرين». اليوم أقيم في السويد حيث لا ألقاب بتاتاً، من رئيس الوزراء وحتى أصغر عامل نظافة. إذا سألتم عن سبب تأخرنا عن ركب الحضارة والتقدم وسيرنا في «الاتجاه المعاكس»، فهو في عقد كثيرة، وما قرأتم أعلاه واحدة منها. السويد - بريد الكتروني