من يقرأ كتب ميشيل فوكو (1926-1984) سيلاحظ اهتمام هذا العلم البارز في عالم الفكر والفلسفة خلال النصف الثاني من القرن العشرين بفكرة الأرشيف. فهو بدأ عمله من أرشيف الثقافة الغربية، بل من ملفات المصحات النفسية والمستشفيات ومراكز البوليس، لكي يقرأ كيف تطور العقل الغربي خلال القرون الثلاثة الأخيرة. لقد عمل صاحب «الجنون والحضارة» (1961) و «الكلمات والأشياء» (1966)، و «راقب وعاقب: ولادة السجن» (1975)، و «تاريخ الجنس» (1976)، على البحث عن تاريخ أنساب الحضارة الغربية انطلاقاً من الأرشيف، أي من الوثائق والمعارف المتراكمة التي لا تكون حضارة إلا بها. ما يعنينا في سياق المقارنة هو غياب فكرة الأرشيف في الحياة العربية وضياع التاريخ الثقافي والاجتماعي والسياسي بسبب هذا الغياب. عندما يغادر الكاتب، أو الشخصية العامة، هذه الحياة الفانية يغيب معه تاريخه وتاريخ حقبته والزمان الثقافي الذي كان يعيشه، فيما يلجأ ورثته إلى التخلص من أوراقه بإتلافها أو بيعها بأي ثمن أو منحها لشخص مهووس بالأوراق والرغبة في أن يطل على عوالم سياسيين ورجال مجتمع ومفكرين وكتاب ومثقفين يكونون قد شغلوا الناس وملأوا عليهم حياتهم فإذا ماتوا اندثروا واندثرت معهم أفكارهم والتاريخ الذي صنعوه. هذا واقع مؤلم متكرر نعرفه جميعاً نحن المشتغلين بالثقافة وتاريخ الأفكار. فكم من الكتاب الذين عرفتهم توارى حضورهم الثقافي بعد موتهم، وضاعت مكتباتهم وأرشيفهم الشخصي لأن ورثتهم لم يدركوا أهمية تلك المكتبات وذلك الأرشيف، كما أن المؤسسات الثقافية، الرسمية والأهلية، والجامعات والمكتبات العامة، لم تلتفت الى تلك الأوراق وذلك الأرشيف بصفتها تاريخ البلد وذاكرته المتجددة. والمدهش بالفعل أن الجامعات العربية، على النقيض من معظم الجامعات الغربية، لا تفكر في أن تضع ضمن موازنتها شراء أوراق الراحلين من أعلام الفكر والثقافة في العالم العربي. ثمة جهل بضرورة أن تكون هذه الأوراق محفوظة في الجامعات لكي يسهل الاطلاع عليها من الباحثين والدارسين، ولذلك يذهب الأرشيف إلى عالم النسيان. فكرة الأرشيف هي الفاصل بين المجتمعات البدائية، التي لا تعنى بالذاكرة، والمجتمعات المتحضرة التي ترى إلى التاريخ بصفته تراكماً وبناء لا مجرد انقطاعات وبدايات من الصفر. عندما نقرأ عن اكتشاف قصيدة مكتوبة بخط يد شاعر مشهور في العالم بيعت بعشرات آلاف الدولارات، علينا ألا نعيد ذلك إلى طبيعة العقل الرأسمالي الغربي، بل إلى تأصل فكرة الأرشيف وكونه جزءاً من الحياة الغربية الحديثة التي وصلت إلى ما وصلته من تقدم بسبب احترام الغرب لمفهوم التواصل والتراكم المعرفي. بلى إنهم يتباهون بما يملكون، لكن المتاحف والمراكز الثقافية ومكتبات الجامعات تهتم كثيراً بامتلاك المخطوطات واللوحات والأوراق والطبعات الأولى من الكتب لأن الأرشيف جزء من التاريخ الثقافي والتراكم الحضاري للأمم. لا تتعلق المسألة بفكرة المزاد فقط، وقدرة من يدفع أكثر على امتلاك ما هو معروض، بل باحترام ما تنجزه العقول عبر التاريخ، التاريخ الذي هو علامة وجود البشر وانتقالهم في المكان والزمان. أما نحن، فإننا بإهمالنا لفكرة الأرشيف نشدد على إمكانية البدء من الصفر، الصدور من الفراغ، من نقطة تبدأ من الذات وتنتهي بها، بل تموت بموتها وتفنى بفنائها. ولذلك انعكاسات خطرة على الحقول كلها: حقل السياسة وتداول السلطة، حقل الاقتصاد وبناء الثروة، حقل الإنجاز الثقافي ومراكمة المعرفة، حقل العلم والتقدم التقني؛ ففي كل هذه الحقول يقود البدء من الصفر إلى كوارث على صعيد السياسة والاقتصاد والثقافة، وتطور المجتمعات وتقدمها.