هدأت خطواتي بعد سير ثلاث ساعات متواصلة. الصهد يخرج من جسدي، يفصلني عن برد يناير. أمامي دكان عم أيوب، تجاوز الثمانين، مقوس الظهر، على ضوء مصباح شاحب، يرص الجرايد. أخرجت رزمة من الجنيهات من جيبي. - أريد بها جرايد. يستدير إليّ، يقعد على كرسي خشب بلا ظهر، أتصل من هاتفه العتيق، على صوت القرص المستدير يحصي المال، جاءني صوتها، قلت: - تعالي - سأرتدي الروب - لا، إرتدي ثوباً أبيض توقف عن العد، تحرك متكئاً على أعمدة من الجرائد إلى الميزان، تساءلتُ: - هل ستعطينني الكثير؟ - أين ستذهب بهم؟ - إلى الميدان - أحضر عربة -أعطيتك كل ما معي - إحملها على ظهرك. أحمل الرزمة الأولى والثانية، أهيم على صوت حبيبتي، تهمس بألف كلمة حب ومليون كلمة عشق، يدفعونني لمقابلة والدها، كان جالساً على الأريكة بجواره صحيفة يتصدرها العنوان الآتي: «تجديد الثقة في حكومة الدكتور نظيف». بين الرزمتين الثالثة والرابعة صوت والدها يرن في أذني: حجرة النوم، الصالون، السخَّان... ينكمش ما في جيبي. انتفضتُ على يده الممدودة. تبلل ظهري بالعرق. جاءت وأنا أنقل الرزمة العشرين، تجفف عرقي بكم ثوبها: - ماذا تفعل؟ - سأبني لنا بيتاً. مع الرزمة الثلاثين منحني عم أيوب بكرات لصق وبكرات دوبار، بَرمتْ حبيبتي جريدة وراء أخرى، أنشأنا العمود الأول ثم الثاني والثالث. أقمنا الأعمدة، وقفتْ على بعد خطوات من الجدران، من الجرائد المنبسطة: (80,000 فرصة عمل للشباب) خطوات هنا الصالة، جزء منها سيكون المطبخ (محدودو الدخل أجورهم في العام 12 ألف جنيه). رصصتُ كنبة للضيوف (منحة عيد العمال). تنظر إلى أحد جدران الحمام (زوجة «كمبوره» عضو البرلمان تقول لأمها: كمبوره حصل على 3 أصوات في الانتخابات صوتي وصوته وأكيد «متجوز» واحده تانيه) انفجرتُ في الضحك. السيد الضابط غيَّر اتجاه سير السيارات بعيداً من شقتنا، ساعدتني في رص عدد من الرزم بارتفاع ثلاث رزم لصنع باقي الأثاث. السرير (طالب كلية دار العلوم يقتل زميلته في الحرم الجامعي). كرسي الصالون (من وراء قطار الموت؟!) طاولة المطبخ (صفر المونديال). أخرجتْ مقصاً من حقيبة يدها، شقت من الصفحة الأولى نافذةً لتطل على العالم، السيارات تنظر إلينا بدهشةٍ، أضواؤها تجرح عزلتنا، بصفحة الوفيات أغلقتْ النافذة، شملنا الهدوء، فكت قيد شعرها، تمددتُ بجوارها على السرير. ملاءة (مشروع توشكى يحل أزمة أجيال). أنفاسها تسكن وجهي، تهمس: - وال... أضعُ إصبعي على فمها. تضع رأسها على ساعدي، تقترب وتقترب، تتساقط حبات المطر، تذوب حروف السقف (تكليف فؤاد محيي الدين بتشكيل الوزارة). تزداد التصاقاً بي، الحروف تذوب شيئاً فشيئاً، تتلاشى الجدران، الأعمدة، الأثاث، نتحول إلى حرفين، تجرفنا مياه المطر عبر الشوارع والأزقة.