استعاد مسرح «البولشوي» الشهير في موسكو الذي غدا شاهداً على تقلبات الزمن، تألقه هذه السنة مع «جواهر» جورج بالانتشين. والمسرح الذي أغلق لست سنوات للترميم وافتتح نهاية العام الماضي بحلة فريدة أعادته إلى سابق عهده في القرن التاسع عشر، أطلق موسمه الجديد هذه السنة بواحد من العروض الكلاسيكية الخالدة التي أدهشت الحضور بتقديم رؤية جديدة لباليه بالانتشين المُصمّم من وحي الأحجار الكريمة. ومع المحافظة على روح العمل الذي حوّل بريق جواهر الماس والزمرّد والياقوت إلى حركة تؤديها الأجساد الراقصة على خشبة المسرح، فإن الجديد الذي قدمه «البولشوي» هو عرض الفصول الثلاثة مكتملة للمرة الأولى، بعدما كان يقدمها في السابق في فصل واحد. والرؤية الجديدة لا تختلف في جوهرها عن العمل الأصلي. لكن، كما يقول الراقص ألكسندر فولتشكوف فإن «روعة عمل بالانتشين تكمن في تصميمه مادة تستطيع كل فرقة باليه أن تقدمها برؤيتها الخاصة، لتُحوّل الأحجار الكريمة إلى تحف فنية براقة». ومن المعروف أن العمل يشتمل على ثلاث مراحل لثلاثة موسيقيين خالدين، فلوحة ألماس ألّف موسيقاها بيوتر تشايكوفسكي، والزمرد لغابرييل فاريه، والياقوت لإيغور سترافينسكي. جمعها المصمم الشهير في عمل متكامل قامت فرادته عندما قدم للمرة الأولى في عام 1967 على كونه لا يعتمد على قصة محورية كما هي الحال بالنسبة إلى عروض الباليه الأخرى. وعلى رغم أن هذه الصيغة كانت أقرب إلى مغامرة، فإن العرض نال شهرة ونجاحاً كبيرين منذ ذلك الحين. ومع «جواهر» بالانتشين يعود المسرح الروسي الأكثر شهرة إلى ذروة تألقه، خصوصاً أن أعمال الترميم التي خضع لها خلال السنوات الست الماضية أعادت إليه روح القرن التاسع عشر مع تحسينات عدة أفادت من أحدث التقنيات. وتضاعفت مساحة «البولشوي» بعد انتهاء الإصلاحات فيه من 40 ألفاً إلى 80 ألف متر مربع. في المقابل تقلص عدد المقاعد في صالة العرض، من 2100 كما كان في العهد السوفياتي ليعود إلى سابق عهده عند إنشائه بصالة فيها 1760 مقعداً. لكن الإصلاحات التي أنفق عليها نحو 800 مليون دولار وفق بعض التقديرات، لم تطاول الشكل الخارجي للمسرح وصالة العرض وخشبته الشهيرة التي غدت الأكبر في أوروبا فحسب. فإضافة إلى الفخامة في الزخرفة الذهبية على جدرانه وسقفه التي كلّفت خمسة كيلوغرامات من الذهب الخالص، ومع عودة ستارة خشبته الفريدة التي طُرّز عليها رسم راقصة باليه، عادت إلى المسرح أيضاً تقنيات ميزته في سنوات غابرة. فقد استرجع المسرح، النظام الصوتي الأسطوري الذي فقد كثيراً من مواصفاته خلال عمليات الترميم المتعددة التي خضع لها المسرح في القرن العشرين. كما زود أحدث تقنيات الإضاءة، وأضيفت إليه معدات حديثة سيشرف على تشغيلها في المرحلة الأولى خبراء ألمان. وكما يُعد «البولشوي» (أي الكبير بالروسية) بعد ترميمه شاهداً على ميل روسيا إلى البذخ واستعراض الفخامة، فهو ظل أيضاً شاهداً على تقلبات الزمن. ومنذ تأسيسه في عام 1776 على يد الأمير بيوتر أوروسوف، شهد المسرح الذي حمل في البداية تسمية «بتروفسكي» نسبة إلى الشارع الذي بني فيه، أحداثاً كثيرة وتعرض للحريق وأُعيد بناؤه أكثر من مرة. فهو افتتح في عام 1780 لينتقل إلى ملكية الدولة بعد تسع سنوات، ولم يلبث أن أصبح تحت إشراف دائرة المسارح الإمبراطورية بعدما التهمه حريق في عام 1805، وأعيد تشييده مرة أخرى لكنه لم يلبث أن دمر في حريق موسكو الكبير في عام 1812. كما أعيد بناؤه مرة ثالثة في عام 1825 على الطراز الكلاسيكي، وكان ثاني أكبر المسارح في أوروبا بعد «لا سكالا» الإيطالي في ميلانو، واتسعت صالته في ذلك الوقت إلى نحو 3 آلاف شخص. لكن حريقاً جديداً قضى عليه في عام 1853 ولم يبق من المبنى إلا جدران حجرية وأعمدة الواجهة الأمامية. وشكل هذا الحريق نقطة تحوّل دفعت السلطات إلى إعادة بنائه بسرعة مع تزويده أحدث التقنيات في ذلك الوقت. واتخذ «البولشوي» شكله الراهن منذ إعادة افتتاحه في عام 1856، وبات اسمه «المسرح الإمبراطوري الكبير». ومع «ثورة أكتوبر» في عام 1917 جرى «تأميم» المسرح مثلما أمّمت السلطات السوفياتية كل شيء في البلاد، وشطبت كلمة «الإمبراطوري» من اسمه ليغدو مسرح «البولشوي» الأكاديمي الوطني. وعلى رغم مكانته الكبرى بين المسارح العالمية، كان المسرح الكبير يترنح في نهاية العهد السوفياتي لأنه لم يخضع لأكثر من قرن لعمليات ترميم وإصلاح شاملة. ولم تشفع للمسرح عودته إلى التألق أخيراً، إذ يشكو مثقفون روس من انتقال أمراض روسيا الحديثة إليه، قاصدين ما يتعلق بالفساد والمحسوبية. ويكفي أن ضجة كبرى أثيرت عند إعادة افتتاحه، بعدما تبين أن بطاقات المسرح الأشهر في العالم تهرّب لتباع في السوق السوداء بأضعاف ثمنها الحقيقي وتصل إلى معدلات خيالية أحياناً. كما أن عدداً من أبرز فنانيه قدموا استقالاتهم، بعدما حرموا من المشاركة في عروض لأسباب وصفوها بأنها لا تقوم على أساس مهني. وسعى مسؤولون في وزارة الثقافة إلى التخفيف من وقع الضجة التي أثارتها وسائل إعلام حول ذلك، لكن معلقاً في إحدى الصحف كتب مدافعاً عن «البولشوي»: وماذا تريدون؟... ألا تعكس خشبة المسرح واقع الحياة؟