على حلقتين، راجع التلفزيون الفرنسي تاريخ ظهور الحروب الحديثة التي اتخذت من الدين ستاراً لها، وقَسم حقبها الممتدة نحو ثلاثين عاماً إلى فترتين زمنيتين: من 1979 إلى 1989، بين نهاية 1989 حتى 2009. قبل دخول العالم المرحلة الأولى من الشكل الجديد لاستغلال الدين في السياسة يسلط البرنامج الضوء تاريخياً على العلاقة بينهما، وكيف استُخدم اسم الدين وعلى مدى قرون في سفك دماء ملايين من البشر، لأغراض أهدافها سلطوية ودنيوية بحتة. ولفهم المرحلة الجديدة من مراحل استغلاله كما يؤكد البرنامج، الذي عرضه التلفزيون السويدي، يتطلب منا العودة إلى التاريخ حتى يتسنّى معرفة المتغيرات الكبيرة فيه، وصولاً إلى فهم شكل الصراع العالمي القريب. في الجزء الأول من «حروب باسم الدين» يجرى بحث التحولات التي أعقبت دخول السوفيات إلى أفغانستان وكيف تَغيَّر إثرها شكل الصراع بين العملاقين الروسي والأميركي إلى شكل جديد أخذ الدين فيه دوراً كبيراً بدلاً من الصراع الأيديولوجي القديم بين الرأسمالية والشيوعية. لقد مثّل تدخل البابا يوحنا بولس الثاني في التحريض المعلن ضد الوجود السوفياتي في أفغانستان وتغذية الولاياتالمتحدة الحركات الدينية المناهضه له مثل «طالبان» و «القاعدة» العلامات الأولى لإقحام اسم الدين بالسياسة، التي ترسخت أكثر بوصول آية الله الخميني إلى سدة الحكم في إيران، وبعد عام واحد من وصوله أعلن قادة اسرائيل القدس عاصمة أبدية لدولتهم. إعلان تزامن مع صعود ممثلي التيارات المسيحية المتشددة في الولاياتالمتحدة في أوائل الثمانينات إلى مراكز قيادية فيها. توخى البرنامج وإلى حد كبير الدقة والتوازن في عرضه تاريخ حروب منطقة الشرق الأوسط كونها من أكثر النماذج تجلياً لتدخل السياسة باسم الدين، واستغلاله لتحقيق أغراضها البعيدة كل البعد عن قيمه. لقد استَغلَت السياسة فعلياً وعلى نطاق واسع أسماء الديانات السماوية الثلاث أسوأ استغلال لها، خلال العقود الثلاثة الأخيرة من تاريخنا المعاصر، واشتركت غالبية الحركات السياسية المتفاعلة في المنطقة، ولها مصالح مباشرة فيها، في تكييفه وفق ما يتوافق مع تواجهاتها؛ فالولاياتالمتحدة احتلت دولاً بذرائع مبطنة باسم حماية «الديموقراطية» من التطرف الإسلامي الذي يهددها، في وقت أذكت ومنذ بداية الثمانينات فكرة الحروب الصليبية القديمة، بأخرى معاصرة. والخميني جاء الى السلطة بشعارات دينية ليسقط عرش الشاه، وسرعان ما تخلى عنها لمصلحة بقائه فيها وتعزيز دور إيران الإقليمي. وفي المقابل رسخ المتشددون اليهود نفوذهم وأيديولوجيتهم في إسرائيل فشجعوا على سياسة الحرب مع العرب لكسب أكبر جزء من أراضيهم، باسم استعادة حق إسرائيل التاريخي فيها، فيما أعينهم ظلت شاخصة على القدس، كلها، لضمها في النهاية باسم «التوراة» إلى «إسرائيل الكبرى». استغلال الدين يلتقي البرنامج ثلاث شخصيات: مقاتل من «حزب الله» ويهودي متطرف ومسيحي أميركي خدم عسكريته في العراق، أكدوا جميعهم أن إيمانهم الديني يزيد من قناعتهم بالحركات السياسية التي ينتمون إليها. فمن دون وجود دوافع دينية لا يمكنهم التضحية بأنفسهم في صراعهم ضد «الديانات الأخرى». وتكشف أجوبتهم وفق الباحث الفرنسي في تاريخ الديانات جين - فرانكو كولوسيمو عن عمق استغلال الدين كذريعة سياسية يتبناها المتطرفون من كل الاتجاهات وهي تلخص بتكثيف التَغَيُر الحاصل في العقود الثلاثة بخاصة مع تراجع المد القومي وفكره في المنطقة العربية ليحل محله «الإسلام السياسي». ويكفي كمفارقة يذكرها في هذا المجال أن أكثر دعاة التحرر القومي رفعوا الشعارات الدينية في حروبهم بدلاً منها، فصدام حسين سمى حربه ب «القادسية» وكتب «الله أكبر» على علم دولته، في المقابل اتخذ الخميني من «موقعة كربلاء» شعاراً يصد به هجمات العراق على أراضيه، وحرب 67 عززت مواقع المتطرفين اليهود فحَوَلوها من حرب قومية إلى دينية وترجموها على الأرض بتوسيع مستوطناتهم والزحف على مزيد من الأراضي العربية، فنصر حرب الأيام الستة كان بالنسبة إليهم حرباً دينية كتب فيها لصهيون دحر المسلمين، في المقابل جاءت للمتطرفين المسيحيين، كما يقولون، الفرصة التي غابت عنهم منذ قرن كامل. لقد آن الأوان في بداية عام 1981، ليأخذ المحافظون المسيحيون الأميركيون دورهم التاريخي، كما أعلن المتطرف جيري فالويل، ويعودوا ثانية كممثلين ل «شعب الله المختار الجديد». وفي عودة للمرحلة الثانية يركز البرنامج على بلورة الصراع وحصره بين مسلمين من جهة ومسيحيين ويهود من جهة أخرى بخاصة بعد تدخلات أميركا في العراق وأفغانستان، التي رأت فيها غالبية المسلمين كما يقول المؤرخ كولوسيمو تهديداً لدينهم وعقيدتهم، وهذا ما استغله سياسيون كثر وحركات متطرفة، قَوَّت مركزها بالتعكز عليها. فأحمدي نجاد الإيراني لا يفوته ذكر «الشيطان الأكبر» في أي من خطبه و «القاعدة» تعلن حربها ضد النصارى واليهود في حين استبدل قادة إسرائيل أعداءهم التقليديين، بمتطرفين إسلاميين جدد مثل الشيخ أحمد ياسين ومن بعده حركة «حماس». وعلى الطرف الثاني اغتال المتطرفون من «صهاينة اليهودية الجدد» رئيس وزرائهم اسحاق رابين باعتباره خائناً لمبادئ كتابهم المقدس. في الحلقتين كثير من التفاصيل التي تعزز فكرة الفيلم الأساسية والتي تقول إن حركات سياسية كثيرة في العالم تَستغِل ومنذ ثلاثة عقود اسم الدين لتحقيق ما تصبو إليه من منافع وإن الخطر الحقيقي يأتي من اللعب بنارها، فإذا نشبت حرب جديدة باسم الدين فإنها لن تتوقف في المنطقة التي تبدأ منها، بل ستمتد إلى مناطق كثيرة من العالم وسيحترق بنارها الجميع.