يبدو ان موجة البرامج الانسانية البسيطة التركيب التي تهيمن على القنوات التلفزيونية الرسمية الاوروبية منذ ثلاث سنوات، متغلبة على كثير من برامج الموازنات الضخمة، ستشهد مزيداً من الانتعاش في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية التي أثرت في شكل واضح على الإنفاق. ويتجلى هذا في هولندا حيث الاتجاه أكثر وأكثر الى هذا النمط من البرامج. فبعد النجاح الكبير لعدد من برامج القضايا والحوار الانساني الهولندية داخل هولندا، ووصول هذا النجاح الى دول اخرى، من خلال بيع بعض هذه البرامج الى محطات مختلفة، كان آخرها برنامج «اهلاً... مع السلامة» الذي بيعت حقوق انتاجه الى ثلاثين بلداً، يحقق البرنامج الجديد «آباء وأبناء» الذي تعرضه القناة الهولندية الثانية نسبة مشاهدة عالية حالياً، ويتوقع ان ينال الصدى الدولي ذاته. فالموضوع الانساني للبرنامج الذي يسبر اغوار العلاقات الحميمة والمعقدة احياناً بين الآباء والأبناء، سيجذب جمهوراً يبحث عن برامج تنشغل في هموم العلاقات الانسانية وتقدم نماذج لا تختلف كثيراً عن تلك التي يعيشها كثر مع عائلاتهم. واذا كانت غالبية تلك البرامج، فضلت التعامل مع الناس العاديين، اختار برنامج «آباء وأبناء» ان يكون ضيوفه من المشاهير، من عالم الرياضة او السياسة او الفن، ولكن من دون احتفاءات زائدة بالنجوم. فهو وان يقدمهم اولاً بشخصياتهم المعروفة، لكنه سريعاً ينزع تلك الصور المعتادة لهم التي قدمها الاعلام، لتظهر شخصياتهم المجردة المكسورة بالألم احياناً، مركزاً في شكل كبير على محن علاقتهم الصعبة مع آبائهم او أبنائهم. وتقدم كل حلقة من حلقات البرنامج قصة واحدة فقط ولقاءات طويلة منفردة واخرى مشتركة بين الأب والإبن للحديث عن الذكريات المشتركة وعن علاقة الابن بالأب والأوقات الصعبة التي مرت بها تلك العلاقات لاسباب مختلفة، بعضها يعود الى خيارات خاصة للأب او الإبن، او احياناً لظروف خارجة عن ارادة الطرفين. ومن الحلقات التي أثارت الاهتمام حلقة السياسي الهولندي بوريس ديتريش الذي ترك السياسة قبل عامين. في الحلقة يكشف الابن السياسي السابق والذي يقترب من الخمسين من العمر المه الذي ما زال مستمراً عن عدم تقبل والده لمثليته الجنسية. وحتى عندما بلغ الابن مكانة لامعة في الحياة السياسية الهولندية، كانت عينه على الاب المسن، ينتظر منه الرضا الذي لم يتحقق ابداً. في حلقة اخرى يكشف الرياضي السابق يان يكيما عن شعور الذنب العميق الذي يحمله تجاه ابنه المراهق بسبب تعاطيه المخدرات، وتصور الحلقة الازمة التي كان يعيشها الاب بين رغبته في تقديم نموذج يفتخر به الابن وادمانه الذي يعود الى اسباب ذاتية خاصة. ولان البرنامج يقدم كل هذه المكاشفات الشديدة الألم احياناً، اختار الفريق الانتاجي ان تنجز المقابلات مع الآباء والأبناء بعيداً من استوديوات التلفزيون والجمهور، حيث صورت غالبية تلك المقابلات في بيوت الشخصيات المشتركة واماكن «الطفولة» السعيدة، بفريق تصوير صغير للحفاظ على حميمية بدت واضحة كثيراً في الحلقات التي عرضت الى الآن. ويعكس البرنامج الذي صور في شكل يقترب من الشاعرية من خلال الاضاءة الطبيعية والتصوير الخارجي، بعضاً من تركيبة العلاقات في المجتمع الهولندي المحافظ احياناً بطبعه، وبخاصة في علاقات الآباء والأبناء. هذا التحفظ لن يظهر بالتأكيد في البرنامج نفسه اذا قدمه تلفزيون يخص مجتمعاً مختلفاً، الامر الذي ربما يجعل البرنامج وسيلة لفهم طبيعة العلاقات للمجتمعات التي يقدمها.