تكثر المقالات والتوقعات في المطبوعات الأميركية المتخصصة خلال الفترة الأخيرة، عن امكان تحقيق الولاياتالمتحدة «استقلالية طاقوية» خلال العقد المقبل، بدءاً من عام 2020، بعد مرور نحو أربعة عقود على اعلان الرئيس ريتشارد نيكسون عن برنامج «استقلال الطاقة» للحد من اعتماد الولاياتالمتحدة على النفط الاجنبي، ومن ثم الحد من الضغوط على سياستها الدولية. يشير خبير الطاقة الاميركي ادوارد مورس في مقال في صحيفة «وول ستريت جورنال» الى ان «الولاياتالمتحدة أصبحت اليوم اهم دولة في العالم تزيد انتاجها من النفط والغاز، ويتوقع ان تستمر خلال العقدين الحالي والمقبل، بفضل بدء الانتاج من الصخر النفطي والغازي، اضافة الى البترول التقليدي. وهناك ايضاً زيادة انتاج كندا من رمال السجيل النفطية، واحتمال تغير القوانين في المكسيك لوضع حد لانخفاض الانتاج، ومن ثم امكان زيادة الصادرات الى الولاياتالمتحدة. وبلغة الارقام ، تعني هذه التطورات زيادة الانتاج النفطي من الدول الثلاث في اميركا الشمالية نحو 11.2 مليون برميل من النفط الخام بحلول عام 2020 لتصل الى 26.6 مليون برميل يومياً، مقارنة بمعدل الانتاج للدول الثلاث في عام 2011 والبالغ 15.4 مليون برميل يوميا. كما ان انتاج الغاز الطبيعي من الولاياتالمتحدةوكندا قد يزداد نحو 22 بليون قدم مكعبة يوميا بحلول عام 2020. يذكر ان الغاز الصخري يشكل ثلث انتاج الولاياتالمتحدة من الغاز الطبيعي. اعتماداً على هذه التوقعات، يقول مورس: ستصبح اميركا الشمالية شرقاً اوسطاً جديداً. لكن يعترف في الوقت ذاته، بأن احتمالات الوصول الى معدلات الانتاج هذه دونها صعوبات، منها ازدياد نفوذ جماعات البيئة، والضغوط في كندا لإعاقة مد انابيب التصدير الى الولاياتالمتحدة (لمحاولة الاحتفاظ بالوقود في كندا واستعماله هناك بدلاً من تصديره)، كما ان زيادة الانتاج من المكسيك قد «تعاني» من القيود الدستورية التي تقيد عمل الشركات الاجنبية واستثماراتها. يتوقع مورس ان تراوح أسعار النفط الخام بحلول عام 2020 في حدود 85 دولاراً للبرميل بدلاً من مستواها الحالي الذي يراوح بين120 و 128 دولاراً للبرميل، وان هذا سيعني زيادة فعلية للناتج القومي الاميركي بنحو 2- 3.3 في المئة، او توفيراً بنحو 370- 624 بليون دولار بحلول عام 2020. ويفترض ان هذا التوفير ناتج عن زيادة الانتاج الهيدروكربوني وفرص العمل والتحسن الملحوظ الذي سيطرأ على ميزان المدفوعات. يفترض الكثير من الباحثين الاميركيين، ان وصول أميركا الى اكتفاء ذاتي في مجال الطاقة، هو الطريق الى الرخاء والأمن الوطني. وهذا افتراض شديد التفاؤل، فهو يتغاضي عن التحديات وواقع الاسواق. فافتراض تقليص استيراد النفط من الخارج يعني امكان عزل الاقتصاد الاميركي عن تقلبات سوق النفط الدولية. وهذا أمر مشكوك فيه، كما تدل تجارب بريطانيا الاقتصادية أخيراً، والتي تعتمد منذ العام 1980 على النفط المستخرج من مياهها في بحر الشمال. لكن على رغم ذلك، ارتفعت اسعار الوقود المحلية وانعكست آثارها على الاقتصاد، بخاصة عام 2007 عندما ارتفعت الاسعار اكثر من 66 دولاراً للبرميل خلال عام واحد. معروف ان سعر النفط يتحدد في السوق العالمية، ومن الصعب النأي بالنفس عن هذه الأسعار العالمية. طبعاً، تختلف اسعار المحروقات المحلية من بلد الى آخر بسبب الفروق في الضرائب المفروضة على المحروقات، او الدعم الذي تقدمه الدولة. هذه هي دينامية أسواق النفط. ويستعر الكلام في الولاياتالمتحدة، بخاصة عند الحملات الانتخابية الرئاسية، حول امكان «ابتزاز» الدول المصدرة للنفط، للسياسة الأميركية الخارجية. لكن الحقيقة تبن ان أميركا تستورد النفط الخام من اكثر من 30 دولة. وهذه السياسة متبعة منذ سنوات، لا تتغير الا بنسب قليلة جداً ما بين سنة وأخرى. فعلى سبيل المثال، بلغت نسب استيراد الولاياتالمتحدة للنفط لعام 2007، 18 في المئة من كندا، المكسيك 11، السعودية 11، فنزويلا 10، نيجيريا 8، الجزائر 5، العراق 4، انغولا 4، روسيا 3، بريطانيا 2، الكويت 1، قطر 1 ،الامارات 1 ودول اخرى 23 في المئة. والحقيقة هي انه عندما تدافع الولاياتالمتحدة على استقرار الامدادات النفطية للاسواق العالمية، فهي تعكس قوتها العسكرية الضخمة لأجل الدفاع عن مصالحها ومصلحة استقرار الاسواق العالمية. وهي بهذا تؤكد نفوذها وهيمنتها العالمية. كما انها تستورد نسبة قليلة من النفط من دول الخليج العربي، لا تكاد تتعدى 18في المئة، أكثر من نصفها من السعودية. فالمهم لواشنطن هنا هو ليس فقدان الامدادات لاسواقها، بل إظهار دورها في تأمين امدادات النفط عالميا، ومن ثم النفوذ الذي تكتسبه نتيجة هذه الحماية لتأثيرها على كبح ارتفاع أسعاره. لا شك في ان تحقيق دول اميركا الشمالية الثلاث، توقعاتها البترولية بحلول عام 2020 ، اذا افترضنا الطريق سهلاً لا تعترضه العقبات التقليدية المعروفة، من الممكن ان توفر الولاياتالمتحدة استيرادها للنفط الخام الى 40 في المئة من استهلاكها بحلول عام 2020، بل حتى 20 في المئة اذا استثنيت كندا. لكن في الوقت ذاته، يجب الأخذ في الاعتبار ان هذا التحول المهم في السياسة الاميركية سيعني ان العالم سيعتمد اكثر على النفط ولمدة أطول. سيشكل اعتماد الولاياتالمتحدة على نفطها المحلي تحولاً كبيراً في اسواق النفط العالمية. فهي تستهلك نحو ربع الاستهلاك العالمي منه. لكن، الأهم من ذلك ان تتحول دولة مصدرة للنفط، كما هو حاصل اليوم في صناعتها الغازية، عندئذ يمكن القول ان صناعة النفط قد أحدثت تحولاً جديداً ومهماً، اقتصادياً وسياسياً. * مستشار لدى نشرة «ميس» النفطية