قد تكون سيطرة البرتغال وسلطنة عُمان وبريطانيا على جزيرة زنجبار الواقعة في شرق أفريقيا والسابحة في المحيط الهادئ وتحكمها جمهورية تنزانيا الاتحادية حالياً، من أسوأ المراحل التي مرّت فيها «الجزيرة الخضراء» كما يحلو لسكانها تسميتها. لكن هذا التلاقح الحضاري الذي غزا «بستان أفريقيا الشرقية» التي عُرفت عند قدماء الإغريق والرومان بجزيرة «منوثياس»، وحوّلها العجم الشيرازيون أواخر القرن العاشر الميلادي الى إمارة مع كل من جزر كيلوا وبمبا وممباسة، أثرى ثقافة الزنجباريين الشعبية وطعّمها بألوان قارات آسيا وأوروبا وأفريقيا. أما العُمانيون الذين طردوا البرتغاليين بقيادة الإمام سلطان بن سيف اليعربي العام 1652 ميلادي، فكان لهم الفضل الكبير في إحداث طفرة تجارية وثقافية في مجموعة هذه الجزر الصغيرة التي أطلقوا عليها اسم زنجبار وهي تعني «برّ الزنج». ومن ثم جعلها السلطان سعيد بن سلطان البوسعيدي عاصمة لسلطنته لما تتمتّع به من مقوّمات أساسية للعيش الرغيد خصوصاً لناحية مناخها المعتدل وموقعها الجغرافي المميز، فأدخل إليها زهرة القرنفل التي تعتبر أحد أهمّ مقوّمات الاقتصاد الوطني حتى الآن إذ تعتبر زنجبار من أكبر البلدان المصدّرة له في العالم. وكانت مراكب العمانيين واليمنيين وتجّار الجزيرة العربية والهند وبلاد فارس المتمركزة على طول الجزيرة، تزخر بليالي السمر والموسيقى والرقص، الأمر الذي كان يجذب أهالي زنجبار الذين تعمل غالبيتهم هناك للمشاركة في احتفالات العرب. فألِف سكان الجزيرة التي يُقال إن وجود العرب فيها سبق ظهور الاسلام، رنّات اللغة العربية وكلمات الأغاني على إيقاع التخت الشرقي ونغمات العود والقانون والطبلة، حتى اندمجت في ثقافتهم الشعبية لتُشكّل مزيجاً فريداً يجمع بين الهندي والعجمي والبرتغالي ومن ثم البريطاني إضافة الى الإفريقي طبعاً. وتوارثت الأجيال الزنجبارية اللغة العربية التي كانت تدرّس في الكتّاب وكانت اللغة الثانية المعترفاً بها بعد اللغة السواحلية الأصلية للبلاد. انقرضت اللغة العربية حالياً في زنجبار التي يسميها أهلها بلغتهم السواحلية أنغوجا وهي كلمة مركبة تعني «امتلاء المنسف»، لكن الموسيقى العربية والشرقية ما زالت حيّة لا بل طوّرها الزنجباريون بخلطة «كوزموبوليتية» لتصبح موسيقاهم التقليدية. وخير ما يمثّل هذه الموسيقى الفطرية المجبولة بأصوات الطبيعة الخلابة في أفريقيا، فرقة «أوركسترا نساء طاوسي للطرب» التي حوّلت خشبة مسرح دوار الشمس في بيروت ليلة أول من أمس، الى كرنفال حافل بالأزياء الملوّنة والرقص الشعبي وأغاني البوب الزنجباري والطرب العربي الممزوج بالفارسي والهندي على إيقاع التخت الشرقي. نحو 16 امرأة احتللن الخشبة لتتولى كل واحدة منهن مهمّتها المتعدّدة الأدوار (عزف، رقص، تمثيل). أما الغناء فبدأ جماعياً بأصوات فطرية شجية ذات طبقة رفيعة ونبرة أفريقية صرف، على أنغام القانون والأكورديون والطبلة والإيقاع والكمان والعود، مُنبِئاً بعرس قادمٍ من مكان ما يشبهنا، يُشبه نغمات مشوّشة مخزّنة في لاوعينا. فتتساءل وأنت تسمع أغانيهن، لماذا تشعر بحنين الى الأعراس والحفلات القروية التي كانت تنظم في الخليج أو في السودان أو في مصر؟ تتساءل لماذا هناك كلمات عربية بين الأغاني والقصائد المغناة؟ هل هي فارسية؟ هل هي هندية؟ لتكتشف لاحقاً سرّ الحكم العُماني الذي أرسى أثراً طيباً للعرب هناك تمثّله الموسيقى أفضل تمثيل. عرض متكامل ولكن على الأسئلة أن تنتهي الآن، فخصر الراقصة المترنّح بشكل دائري سريع بارع، لا يسمح للمشاهد بغضّ النظر ولو للحظة عما يحصل على الخشبة. هنا عرض مسرحي متكامل. الصبايا الجميلات بملامحهنّ العربية الإفريقية الشديدة السمرة، يرقصن تارة ويعزفن تارة أخرى، يشاركن بالغناء طوراً ويحاورن الجمهور بعيونهن «الذباحة» أو بأجسادهن المتحرّكة لغزل النسيج القديم. إنه حقاّ عرس والعروس هي بي كيدودي ابنة المئة وخمس سنوات أو ربما أكثر، التي دخلت المسرح رويداً رويداً متأنية بخطواتها لتصدح بآه عربية شجية بديعة صفّق لها الجمهور ووقف إجلالاً. هذه المرأة ذات الصوت الرخيم المجروح الذي يُذكّر في ثناياه بصوت البرتغالية سيزاريا إيفورا، وقفت على المسرح لأكثر من ساعة ونصف الساعة تعيد الى ذاكرتنا أغانيَ نادرة لمحمد عبد الوهاب كنا قد نسيناها مثل «أيها الراقدون تحت التراب». ومن ثم تُعطينا درساً زنجبارياً محبباً في الثقافة الجسدية يرافقه رقص شعبي فريد من نوعه تعتمد فيه الراقصات على الردفين والخصر بشكل أساسي. ومن التربية تنتقل الى أغاني حقوق المرأة وحريتها ومساواتها بالرجل الغائب عن الفرقة كلياً. ثم تصل الى الحب والأحلام، وما أروع قصص الحب بصوت حزين عتيق كقصص ألف ليلة وليلة. بي كيدودي التي تردّدت السلطات اللبنانية المعنية في إعطائها التأشيرة للمجيء الى بيروت، نظراً الى كبر سنّها، تعتبر ملكة موسيقى الطرب والأنياجو بلا منازع. فقد بدأت الغناء وهي في سن العاشرة حين كانت تتردّد الى مراكب اليمنيين والعمانيين على الشاطئ، فحفظت أغانيهم وأناشيدهم وألحانهم ورقصاتهم عن ظهر قلب، كما تقول ل «الحياة». وعندها قررت تعلّم الإنشاد وعزف الموسيقى، لدى مؤسسة الطرب في زنجبار ستي بنت سعيد. ولا تزال صاحبة الصوت الجهوري في غنائها وفي حديثها، العنصر الرئيس لجزيرتها في طقوس الرقص القديمة، لذا كُرّمت مواهبها المتعدّدة في مهرجان زنجبار السينمائي العالمي في العام 1999. وفي 2005 فازت بي كيدودي بجائزة «وميكس» للإنجاز الفريد عن إسهاماتها الاستثنائية في الموسيقى والثقافة في زنجبار. وتعتبر فرقة «أوركسترا نساء طاوسي للطرب» التي تشكل بي كيدودي نجمتها، صوت المرأة الزنجبارية كما تقول مؤسسة الفرقة في العام 2005 الملحّنة وعازفة القانون مريم حمداني التي قرّرت «جمع بعض النساء الموهوبات في فرقة واحدة وتدريبهن على العزف والرقص ليقدّمن المرأة الزنجبارية بشكل راق». وتؤكد: «الفقر في زنجبار مدقع، وهناك نساء موهوبات فعلاً، فقلت لنفسي لماذا لا نؤسس فرقة موسيقية تعطي فرصة حقيقية لهؤلاء النساء وتساعدهن في إعالة عائلاتهن». وتضيف: «عندما بدأنا استغرب الرجال وخصوصاً الموسيقيين منهم، أما الآن فصرنا نمثّل المرأة بأغانينا الفولكلورية من ناحية والعصرية النقدية التي تحضّها على التقدم والمساواة والحرية وتطالب بقوانين تحميها، من ناحية أخرى».