نحتفي بافتتاح المؤتمر الدولي التاسع لتاريخ بلاد الشام، وقد بلغ أشده من العمر أربعين عاماً، فقوي عوده واشتد ساعده، والجامعة الأردنية تحتفي هذا العام أيضاً بعيدها الخمسين، فنغتنم هذه المناسبة العلمية لنقدم لأسرة الجامعة وخريجيها ولكل من تحمّل فيها مسؤولية ونهض بمهامها العلمية السامية أجمل التهاني والتبريكات. نجتمعُ اليوم والبلاد العربية جمعاء مرّت وتمرّ بهزّات اجتماعية وسياسية تهاوى نتيجة لها عدد من الأنظمة، والبقية تتدارك نفسها إزاء هذا الزلزال الكاسح. والعبرة المستخلصة من كل هذه الأحداث أن الأمة العربية واحدة في مشاعرها وعواطفها وأمانيها، وأثبتت هذه الهزات الاجتماعية أن العروبة حقيقة، وأن الدين حقيقة، وأن التنوع والتعدد حقيقة والحكمة في إدارتها هي المطلب والمحك، وأن الثقافات الرافدة لنهر الحركة العربية الكبير هي حقيقة تضيف قيمة نوعية لحضارتنا. وانتهت بنا الأحداث إلى أن لا بديل من التعددية السياسية والعدالة الاجتماعية واحترام حقوق الإنسان والدولة القائمة على سيادة القانون، والقادرة على التصدي للسرطان الإسرائيلي الذي يستشري في جسد الأمة العربية والإسلامية بل المجتمعات الحرة في العالم. وليس في نيتي البحث في التفاصيل في هذه المرحلة المفصلية وما تحمله من تحولات في مسيرتنا نحو المستقبل، بل لأقول ان كثيراً مما كُتب خلال القرن الماضي وهذا العقد من الزمان من تاريخنا ليس بالتاريخ، بل في معظمه هراء في هراء يمثل تراجعاً كبيراً في مستوى تناول المؤرخين العرب لتاريخ مجتمعاتهم بموضوعية تسعى نحو الحقيقة، لذا يجب علينا جميعاً وقد رحل عنّا الكبار الكبار من أساتذتنا الأخيار وعلمائنا الأبرار، الذين نَستمطر شآبيب الرحمة على أرواحهم الطاهرة أن نسأل أنفسنا: ماذا أعددنا لملاقاة المستقبل واستقباله؟ وأصارحكم على ضوء تجربتي المتواضعة، تلميذاً في مدرسة التاريخ، أن ما نقرأه ونتفحصه من الكتابات باسم التاريخ هو في الغالب الأعم متهافت يعاني من غياب المنهجية وضعف الأسلوب في العرض وركاكة اللغة وعلى رأسها اللغة العربية والجهل المطبق باللغات الأجنبية، أضف إلى ذلك أن مدارس الاستشراق بدأت بالضمور قبل أن تُطلق عليها رصاصة الرحمة، ولم يعد التاريخ العربي جذاباً للباحثين الأجانب لنحصل على دراسات على غرار كتاباتهم في القرن التاسع عشر وما تلاه. لكل ذلك، علينا أن نتشاور في الخطط الدراسية والمنهجية، وتدريس فلسفة التاريخ وتسليح الطلبة بمعرفة لغات الشعوب الإسلامية التي تمثل عمقنا الحضاري، واللغات الأجنبية التي تأخذ بأيدينا للإطلال على المستوى الرفيع للدراسات التاريخية لبلدانهم ولاهتمامهم بتاريخ العالم، وكما هو معروف أن كتابة التاريخ عملية متصلة لا تتوقف حتى في الموضوع الواحد. لقد أصبح ولله الحمد مؤتمر بلاد الشام في تراكم إنتاجه مدرسة تاريخية في البلاد العربية، ونأمل أن تنضم إليه مدارس أخرى في العالم العربي بعدما تحررت كتابة التاريخ من هيمنة الدولة القطرية، وبخاصة في الدول التي تحاول قيادتُها أو لجنةُ الكتابة فيها فرضَ رؤى أحادية ظالمة لتلقين الطلاب تاريخنا مصنوعاً ومزوراً. ويسرني هنا أن أتوجه بالشكر إلى الزملاء المشاركين ببحوث علمية خصصت جميعها للمراجعة والتقييم وبعد انقضاء جلسات المؤتمر، سنعيد البحوث من جديد لأصحابها لمراجعتها على ضوء المداولات وبعد ذلك نرسلها لأساتذة متخصصين لتمييزها وتقييمها وبذلك أصبح المؤتمر مدرسة لاكتشاف الموهوبين من تلاميذ التاريخ وأساتذته. اسمحوا لي أن أتوجه بالشكر والتقدير لرؤساء الجامعات الثلاث وإلى جميع المسؤولين فيها، والشكر موصول إلى الأساتذة الرؤساء السابقين فيها الذين حملوا المسؤولية بكل أمانة واقتدار، فلقد حظي مؤتمر تاريخ بلاد الشام منذ مطلع السبعينات بدعمهم الكبير، ومثل ذلك الدعم لقيناه من المسؤولين. وما كان لهذا المؤتمر أن يُعقد في مثل هذه الظروف الصعبة التي نعيشها لولا الجهد المتواصل للجنة تاريخ بلاد الشام، وللعاملين في جهاز اللجنة الذين واصلوا الليل مع النهار بكل كفاءة في الإعداد والاستعداد لعقد هذا المؤتمر الخيِّر فلهم الشكر جميعاً، أما جهود الإخوان في دوائر الجامعة الأردنية وأقسامها وشعبها فلا يفيها الشكر فقط، بل إضافةً إلى الشكرِ الدعاءُ لله تعالى أن يحفظهم جميعاً. وأختم كلمتي بقوله سبحانه وتعالى: «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ» (الرعد 17)، وكلنا حريصون على كلِّ شبرٍ من بلاد الأمة العربية لأن حال كل واحد منّا حال ما عبّر عنه الشاعر: في الشام قَومي وبغداد الهوى وأنا بالرقمتين وبالفسطاط إخواني * الكلمة الافتتاحية للمؤتمر التاسع لتاريخ بلاد الشام