خير سيرةٍ وأكملها سيرة سيد البشر وأفضلهم - صلى الله عليه وسلم -، ولم تحفظ سيرة نبي ولا رسول كما حفظت سيرة المصطفى - عليه الصلاة والسلام -، وقد أكثر اليهود والنصارى في كتبهم وأسفارهم من قَصص بعض الأنبياء؛ كسليمان وداود وموسى وعيسى - عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام - فخلطوا قليلاً صحيحاً بكثير ملفق لا يليق بوليٍ صالح، فضلاً عن نبي تقي، أما سيرة المصطفى فمحفوظة بسندها الصحيح المتصل في كتب الصِّحاح والسنن، التي عرضتْ لنا سيرته العظيمة بتفاصيلها بوصف دقيق فلم تدع شيئاً ذا شأن إلا أظهرته ورسمتْ لنا صورته؛ حتى ما يكون في شأن بيته وخاصّة أهله. والمشهور عن عامة الناس اليوم أن سيرة النبي تطلب في كتب المغازي والسير المشهورة فقط، وإنما جاء هذا الحصر الخاطئ من توهمهم أن كتب الصحاح والسنن ما هي إلا مدونات لأحاديث الأحكام والترغيب والترهيب والآداب، فليختص بها طلبة العلم والوعاظ والباحثون! صحيح أن سيرة المصطفى - عليه الصلاة والسلام - لم تُروَ في كتب الصحاح والسنن مرتبةً ترتيباً تأريخياً كطريقة كتب التأريخ والسير، وإنما جاءت مبثوثة تبعاً لمظان فوائدها وما يستنبط منها؛ ولكنها قريبة المأخذ لمن رامها، مخدومة بفهرسة وتبويب يدلك على بغيتك، كل ذلك بسند متصل صحيح؛ إلا ما نبّه أهل العلم على ضعفه. ثم جاء من خدم هذه السيرة المبثوثة المفرقة على أبواب الفقه والعلم، فجمع تفاريقها، وآلف بينها، وميّز صحيحها من ضعيفها، ورتبها، وانتظمها في تأليف جديد بديع. وهذا المنهج الجديد ينبغي أن يكون هو المقدم في هذا العصر في عرض سيرة الحبيب عليه الصلاة والسلام؛ لأنه هذّب السيرة ونقحها فاطّرح ضعيف أخبارها ومكذوباتها وكلَّ ما ليس له سند صحيح، ثم عاد على كتب الصحاح والسنن فجمع منها تفاريق السيرة وحوادثها وآدابها، ورتّبها بترتيبها الزمني في عرض مشوق أبرز فيها من العظمة المحمدية ما كانت كتب السير والمغازي تمر عليه مروراً عابراً من دون أن ترسم له صورةً شاخصةً لا تخطئها العين وهي تقرأ ذاك الحدث المتمثّل فيه ذلك الجانب من العظمة، وربما اعتُذر لها بأن عقول قرّائها في وقتها كانت لمّاحة فطِنة تقرأ مواعظ الحدث ومواطن العظمة المحمدية فيه ولو لم يكن الحدث نفسه ناطقاً بذلك، فاستغنى المؤلف عن أن يستنطقها ويقف لها بعض الوقفات. وإذ نقول هذا القول فلا يلزم منه أننا ننتقص كتب السير ونحقر من قدرها ومكانة مؤلفيها، ولكن احترامها وتقدير جهد مؤلفيها لا يعني لزاماً أن يقف التأليف في سيرة الحبيب حيث وقفت، وأن نحول دون كل تجديد في هذا الباب قائلين بلسان حالنا: ما ترك الأول للآخِر شيئاً! إن شواهد الحياة تقول: لكل زمن رجاله، ولكل عصر كتُبه ومؤلفوه، وما يصلح للأوائل قد لا يصلح للأواخر، وظروف الحياة اختلفت، ومدارك العقول ضعفت، والهمة قصرت، وطرق التأليف قد تطورت، وجدّت طرق مبدعة ماتعة مشوقة في صفّ الكتاب على أحسن إخراج وأتمه. إن سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم ليست مجرد غزوات وفتوحات، كما قد توحي به بعض كتب المغازي والسير، التي لا تكاد تقرأ فيها إلا تلك الفصول المصدَّرة بالعبارة المألوفة: «ثم دخلت سنة كذا وكذا، وفيها وقعت غزوة كذا، وقتل من المسلمين كذا ومن المشركين كذا....إلخ». أيصح أن تختزل حياة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في هذه المشاهد والسياقات وكأنها ليست إلا غزوات وفتوحات!! إن من الخطورة بمكان أن تختصر عظمة النبي عليه الصلاة والسلام وتختزل سيرته في غزواته وفتوحاته؛ حتى لكأنما معجزاته وآيات عظمته لا تظهر إلا فيها، وفي هذا طَمرٌ لصور أخرى مشرقة من شمائله وصور عظمته. يتعين في هذا العصر أن يعاد التأليف في سيرته العطرة على نحوٍ تبرز فيه جوانب العظمة المحمدية كلها، وتُستوعب فيه صور الشمائل المحمدية بلا استثناء، وبأسلوب جديد بعيد عن التعقيد والغموض والإغراب. والأمر يتطلب استقراءً شاملاً لكتب الصحاح والسنن لجمع ما تفرق فيها من وقائع السيرة وشواهد شمائله وأخلاقه، وفي الشمائل وحدها ألّف بعض العلماء؛ كالترمذي في كتابه الشمائل المحمدية. إن كون أجيالنا لا تقرأ في السيرة النبوية هو بلا شك مشكلة؛ ولكنها جزءٌ من المشكلة لا كلها، والجزء الآخر من المشكلة أن الكتب الشهيرة في هذا الباب هي كتب السير والمغازي المؤلفة لغير هذا العصر بطريقة عرضها وأسلوبها، وأما ما أُلف في هذا العصر فأكثره إما مغمور لا يعرف، أو مطبوع بعدد محدود فلا يعرفه أكثر الناس، هذا إن لم يكن قد نفد من المكتبات. إن في السيرة باباً من التجديد من يُوفق إلى الإحسان فيه فقد وفق إلى طريق من أحسن طرق إحياء سنن الحبيب عليه الصلاة والسلام. * أكاديمي في الشريعة. [email protected]