في عملية تشبه الافلام البوليسية اقتحمت الشرطة الصربية قبل أيام مقر عصابة متخصصة بسرقة الأعمال الفنية من المتاحف ومنازل الاثرياء الذين يحتفظون بمجموعات خاصة، حيث عثر في مقرّهم على لوحة الفنان بول سيزان «الصبي بالصدرية الحمراء» التي قُدّرت قيمتها بمئة مليون يورو. ولم تكن صدفة أن يعثر في مقرهم على مبالغ كبيرة بالعملات المختلفة (1,5 مليون يورو و 60 ألف فرنك سويسري... الخ). وقد ألقي القبض في هذه العملية على راشكو ملادينوفيتش الذي سرق اللوحة في 2008 من أحد متاحف زيوريخ مع ثلاثة آخرين من أفراد هذه العصابة المتخصصة بسرقة الأعمال الفنية. وكانت لوحة بول سيزان «الصبي بالصدرية الحمراء» قد سرقت في 10 شباط (فبراير) 2008 في عملية سطو مسلح على متحف في زيوريخ، حيث قام أفراد العصابة المقنّعين باقتحام المتحف بالسلاح قبل نصف ساعة من إغلاقه وسرقة أربع لوحات لسيزان وفان غوغ وادغار ديغا وتهريبها الى صربيا. كشفت التحقيقات أن أفراد هذه العصابة عرضوا بيع لوحة سيزان «الصبي بالصدرية الحمراء» مقابل 3,5 مليون يورو، مع العلم أن قيمتها الحقيقية هي مئة مليون يورو ولكنهم لم يوافقوا على بيعها بمبلغ 2,8 مليون يورو الذي عرض عليهم. وفي حين ظهرت بعد أيام اللوحتان المسروقتان لفان غوغ، إلا أن اللوحة الرابعة لادغار ديغا لا تزال مفقودة حتى الآن. ومع هذه العملية فتح ملف سرقة الاعمال الفنية في صربيا وأوروبا الشرقية التي تحولت الى تجارة عالمية تحتل الآن المرتبة الثالثة بعد المخدرات وتجارة السلاح. وكانت صربيا اشتهرت في هذا المجال خلال السنوات الاخيرة بعد الكشف عن سلسلة من سرقة اللوحات العالمية. ففي تشرين الاول (اكتوبر) 2011 تم الكشف في بلغراد عن لوحتين مسروقتين لبيكاسو («رأس الحصان» و «الابريق والكأس») تعودان الى 1944 و 1966 وتقدّر قيمتهما بعشرات ملايين الدولارات. وهاتان اللوحتان سرقتا خلال 2008 من متحف في بلدة فيلكون السويسرية، واختفتا بعدها لتظهرا فجأة في بلغراد. وقبل ذلك بشهرين (آب - أغسطس 2011) كانت الشرطة الصربية ألقت القبض على سارق صربي محترف للاعمال الفنية حيث وجدت لديه أربع لوحات مسروقة من سويسرا خلال 2008-2009 كانت من أهمها لوحة «صلب المسيح» للفنان لوقا كرانه. ومسلسل سرقة الاعمال الفنية العالمية هذا بدأ في بلغراد نفسها عام 1996 مع سرقة لوحة «البائعة» للفنان بيير رينوار من «المتحف الوطني» في بلغراد، حيث قام السارق بعرضها للبيع مقابل 40 ألف مارك ألماني آنذاك بينما كانت قيمتها تقدر بالملايين. ويقدّر الخبراء عدد اللوحات المسروقة بحوالى 30 ألف لوحة بينما يقدّرون حجم تجارة الاعمال الفنية المسرقة سنوياً ما بين 2 – 5 مليار يورو، وبذلك تحتل هذه التجارة المرتبة الثالثة في السوق السوداء بعد المخدرات وتجارة الاسلحة. ويلاحظ هنا أن هذه التجارة ازدهرت في العقدين الاخيرين في أوروبا الشرقية (وبخاصة في روسيا وبولونيا وصربيا) وفي أوروبا الغربية الغنية باللوحات القيمة سواء في معارضها أو في بيوت الاثرياء فيها (وبخاصة في فرنسا وألمانيا وإيطاليا). أما الاسباب الكامنة وراء ذلك فمتعددة. فمع انهيار الانظمة الشيوعية ازدهرت المافيات في أوروبا الشرقية التي سارعت الى استغلال الفوضى والفترة الانتقالية بسرقة الأيقونات واللوحات الفنية من الكنائس والمتاحف لبيعها في الغرب. ومع ظهور الطبقة الجديدة من الاغنياء في أوروبا الشرقية صارت تجارة اللوحات الفنية المسروقة تعتبر وسيلة لغسيل الاموال من ناحية ووسيلة للتباهي من ناحية أخرى. أما في الغرب فتستفيد المافيات من هذه اللوحات المسروقة لرشوة بعض المسؤولين والسياسيين. وفي ما يتعلق بالغرب يلاحظ ان هذه التجارة ازدهرت بعد 2001، أي مع تصاعد «الحرب ضد الارهاب»، حيث ازداد تركيز الاجهزة الامنية على هذه «الجبهة الجديدة» وذلك على حساب «الجبهات التقليدية» ومنها حراسة الكنائس والمتاحف. ولكن يعتقد هنا على نطاق واسع أن وراء ازدهار هذه التجارة خبراء في الفن وتاريخ الفن والمجموعات الفنية في المتاحف. كذلك هناك مهووسون باقتناء اللوحات المعروفة في العالم، حيث يزود هؤلاء اللصوص بالمعلومات اللازمة عن اللوحات المطلوبة وحتى بالمعلومات التقنية حول اقتحام المتاحف لينجز بعدها اللصوص المطلوب منهم مع بيع اللوحات المسروقة بأسعار «رمزية» بالمقارنة مع أسعارها الحقيقية. ويقول مسؤول صربي في مكافحة الجرائم لصحيفة «داناس» البلغرادية بمناسبة الكشف عن لوحة سيزان (عدد 14/4/2012) إن أفراد الدائرة أصبح عليهم أن يهتموا بالفن وأن يمثلوا دور «المهتمين» بشراء اللوحات من اللصوص. ونظراً لأن ليس من السهل بيع هذه اللوحات يتفاوض اللصوص مع أصحاب اللوحات (الافراد أو المتاحف) لإعادة اللوحات المسروقة مقابل مبالغ مالية محددة وهنا يأتي دور الشرطة للتدخل والقبض على اللصوص. وكما هو الامر مع المخدرات كان يقال عن صربيا إنها «دولة ممر»، ولكن «دولة الممر» تتحول مع الزمن الى مجال مغر لهذه التجارة لأن صربيا غنية بكنائس القرون الوسطى التي تحتفظ بأعمال فنية قيمة. وفي هذه الحال لا يميز اللصوص بين الأيقونات ولوحات بول سيزان بل إن التمييز يقوم على الاهم والاعلى سعراً في السوق السوداء للأعمال الفنية.