أطلقت الثورة التونسية مواهب الشباب من الجنسين لتكشف عن قدرات إبداعية لطالما ظلت حبيسة طاولات المعاهد الثانوية وبعض الجدران القصية في الكليات. وطوال حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي الذي حكم البلد بقبضة من حديد على مدى ثلاثة وعشرين عاماً، اعتُبرت الرسوم الجدارية أو «الغرافيتي» تحريضاً على التمرد وصناعة ثورية جوبهت بقسوة. وعزا الباحث الاجتماعي كاظم ونيسي هذا الموقف السياسي المتشدد من رسوم الغرافيتي إلى سنوات الصراع بين الحكم والطلاب في الجامعة، خلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، إذ كثيراً ما اتخذ هذا الصنف من التعبير طابعاً احتجاجياً. واستخدم الطلاب الرسوم الساخرة لنقد السلطات والتهكم على كبار المسؤولين من خلال شعارات وصور كانوا يرسمونها على جدران الفصول أو في أماكن بعيدة من الأنظار، فضلاً عن طاولات الدراسة التي تمتلئ برسوم تجمع بين اسم المعشوقة التي يهيم بها الطالب والرموز السياسية التي تثير غضبه. وأشار ونيسي إلى أن الرسوم الأولى التي ظهرت كانت مجهولة المؤلف بسبب خشية أصحابها من التبعات الأمنية المكلفة، إذ سبق أن اعتُقل طلاب يساريون وتعرضوا لمساءلة قاسية بعد الاشتباه بكونهم وراء بعض الرسوم والشعارات المكتوبة على الجدران. رسوم الغرافيتي في ... المناجم وخلال السنوات التي سبقت الثورة التي اندلعت في السابع عشر من كانون الأول (ديسمبر) 2010 طفت على السطح مجدداً رسوم جدارية، وبخاصة خلال الأزمات الساخنة مثل ما بات يُعرف بانتفاضة الحوض المنجمي، عندما سيطر المواطنون على مدن فقيرة يعتاش أهلها من استخراج الفوسفات، وشكلت رسوم الغرافيتي آنذاك متنفساً للمحتجين، وفي مقدمهم الشباب، للتعبير عن رفضهم لما اعتبروه تهميشاً لمناطقهم وحرماناً من ثمار التنمية، بما فيها ثروة الفوسفات التي يكتنز بها باطن الأرض في جنوب غربي البلد. ويقول الطالب وائل الميلادي إن الثورة التي شملت كل المدن التونسية، في أواخر 2010، منحته فرصة لم يكن يحلم بها لتنشيط ملكاته الفنية، إذ شعر أن جدران مدينة الرديف المنجمية الفقيرة باتت لوحة بيضاء عملاقة مهداة له ولرفقائه كي يُجربوا على صفحتها قدراتهم على الإبداع. وما حصل في الرديف كان صورة مصغرة لما حدث في غالبية المدن التي اجتاحت الرسوم الشبابية ساحاتها وحيطان مبانيها إن في الأحياء السكنية أو في قلب المدينة الإداري. وأقرت الشابة سهى مزهود بأن المربع الإداري في سوسة، المدينة السياحية التي تقع على ساحل المتوسط، كان يثير الرهبة لدى الشباب لارتباطه بصورة السلطة والقمع في أذهانهم، أما بعد الثورة «فانهارت تلك الصورة وبات كل مكان في المدينة فسحة لحرية التعبير من دون قيود». كلمة ساحرة «حرية التعبير» هي الكلمة السحرية التي فتقت مواهب الشباب، وأهدت تونس أفكاراً وشعارات سحبت المترددين والخائفين في العهد الماضي إلى ساحة العمل العام، وصارت مثل كرة الثلج التي تغتني كل يوم بوافدين جدد تستقطبهم غواية الرسم. وأكد الأكاديمي منور الورداني أن تحليل مضمون الكتابات والرسوم الجدارية أثناء الثورة يشير إلى خليط من المواقف والشعارات والأفكار التي لا رابط بينها سوى، ربما، فكرة الحرية بمعناها العام. واعتبر أن تلك الرسوم كانت متنفساً للكبت السياسي والاجتماعي الذي استمر عقوداً. إلا أن الاعتصام الذي قام به مئات الشباب الآتين من كل المناطق في مجمع الوزارات بالعاصمة، شكل انعطافاً في تاريخ الغرافيتي على ما قال الورداني. وكان الشباب يطالبون بإقالة حكومة محمد الغنوشي الذي عمل تحت سلطة بن علي. واستطاع الاعتصام الذي حرض عليه اتحاد النقابات وتنظيمات من أقصى اليسار، أن يُفرز ما يمكن اعتباره كتيبة الرسامين الذين ملأوا جدران الوزارات في المجمع الحكومي في القصبة، بالكتابات الحائطية والشعارات الراديكالية. امتلأت جدران قصر الحكومة والوزارات المجاورة لها بشعارات تدعو الى إسقاط حزب بن علي «التجمع الدستوري الديموقراطي» ومحاسبة وزرائه وتنحية رئيس الوزراء المخضرم الغنوشي، لكن اللافت أن تلك الشعارات انتقلت من «مصنع الغرافيتي» في القصبة إلى سائر المدن في المحافظات الداخلية. وطبعاً نالت مقار الحزب الحاكم في مدن الداخل، والذي تم حظره لاحقاً، نصيبها من الشعارات المناوئة. ومازال كثير من تلك الرسوم الساخرة والشعارات ماثلاً على جدران المقر المركزي للحزب في قلب العاصمة تونس. وتكررت التجربة مجدداً في الاعتصام الثاني الذي تجمع خلاله الآلاف في القصبة مرة أخرى للمطالبة برحيل الغنوشي ووزرائه، وانتهى باستقالة رئيس الوزراء في الحكومة الانتقالية. واعتمد بعض تلك الرسوم على الراية التونسية مستنداً الى لونيها الأبيض والأحمر لدمجهما مع الشعارات والمطالب، ما ساعد على تطوير فن الغرافيتي. وكان لافتاً أن رسوم الغرافيتي في القصبة كما في أماكن أخرى من العاصمة والمحافظات الداخلية، لم تقتصر على لغة واحدة، وإن كانت العربية هي الطاغية. تداخلت الفصحى مع اللسان المحلي، واختلطت العربية بالفرنسية ونادراً بالإنكليزية. ولعل الكلمة التي كانت الأكثر تداولاً في الغرافيتي هي عبارة «ارحل» بالفرنسية أو Degage! التي بتنا نسمعها في غالبية التظاهرات والاعتصامات تعبيراً عن الرغبة في التخلص من رموز العهد السابق. كان المشهد شبه سوريالي في يوم مغادرة الحشود ساحة القصبة بعد استقالة الحكومة، إذ أن جدران المباني الرسمية التي حكم من خلالها الأتراك ثم البايات طيلة أربعة قرون حتى أواسط القرن الماضي، باتت ملكاً للشارع. لم يبق مربع في جدار ليس عليه رسم أو صورة أو شعار. تداخلت الألوان والأسماء والرموز، فالشباب الذي رابط هناك في الخيام طيلة نحو شهر في الجملة، لم يكن لديه ما يفعل سوى المشاركة في المناقشات وكتابة الرسوم. ربما لم يفكر الباحثون الاجتماعيون والمتخصصون بتحليل الخطاب باقتناص الفرصة لتخليد تلك اللحظات الفريدة ومحاولة فهمها، إذ سبقهم إلى الساحة عمال النظافة ما إن تمت تسمية الباجي قائد السبسي رئيساً جديداً للوزراء. وأظهر التلفزيون التونسي عشرات العمال وهم منهمكون بمحو رسوم الغرافيتي وغسل الجدران من الألوان المختلفة التي صبغتها تمهيداً لعودة الوزراء إلى مكاتبهم. لم تبق رسوم الغرافيتي حية اليوم سوى في قطارات الضواحي والباصات، حيث مازال الشباب ينفسون من خلالها عما يخالجهم إما من مشاعر الحب أو من المواقف الاحتجاجية. كما أن ساحات الجامعات، وإلى حد ما الثانويات، تحررت هي الأخرى من الرقابة والسلطة القمعية، وصارت ساحة فسيحة للتعبير الحر المنفلت أحياناً من كل القيود. ربما لايختلف اثنان على أن اعتصامي القصبة، شكلا نقلة نوعية في رسم الغرافيتي، إذ «تخرج» في أكاديميتها رسامون كثر من الشباب الذين أتيح لهم الوقت الكافي ليصقلوا موهبتهم، كما ظهر خلالها رسامون مغمورون لكن موهوبون، وحتى إن مُحيت أعمال الغرافيتي التي أبدعوها فإنها مازالت ماثلة في أفلام السينمائيين وأشرطة الهواة، التي سجلت تلك الحقبة.