تجلس مع مجموعة من الناس، فتسمع نقداً حاداً لفلان، بناء على ما قاله وتكلم به، وتقرأ كتاباً في نقد فلان، أو مقالة في التعقيب على الآخر، فتراجع ما ذكره ونقله، فتجد أن الأزمة في فكر الناقد، لا في قول المنقود، ويزعجك ما يحمله الناقد من مؤهلات علمية خلت من الموضوعية النقدية، التي حوّلت نقده من النقد العلمي الموضوعي إلى الشخصي السطحي، وتظل تتذكر قول الشاعر: «وكم من عائب قولاً صحيحاً... وآفته من الفهم السقيم». إن الفهم الصحيح لم يعد معضلة فرد أو جماعة أو مذهب، بل بات معضلة أمة مترامية الأطراف، يجب علينا جميعاً تنبيهها وإيقاظها، والحرص على تنقيتها من أنماط التفكير الهزيل، والفهم السطحي لكثير من الوقائع والأحداث، المنتج لكثير من الأحكام المغلوطة، لأن الاعتماد على ظواهر الأشياء والالتفات لأشكالها من دون التعمق والنفاذ إلى ذواتها، واستيعاب غاياتها وأبعادها وجذورها سطحية في التفكير، وجمود في الفهم ينتج من قلة الزاد المعرفي وضيق الأفق، بحيث لا يتجاوز الإنسان مكانه ودائرته في التفكير، ولا يستطيع إدراك ما بعد كشعوره بما قَرُب، فيقرأ ويسمع مقتطعاً للنص، ومصدراً الحكم بناء على فهمه وحكمه المسبق، لا على ما كُتب أوذكر، ومثله كمثل من حذر من الصلاة، لأن الله سبحانه في كتابه يقول: (ولا تقربوا الصلاة) وأباح الخمر، لأن الله قال فيها: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس) من دون أن ينقل النص كاملاً من غير اقتطاع، حاملاً أول الكلام على آخره، بناء على تسلسله ووروده، مصدراً الحكم بناء على منهجية موضوعية، لا دوافع شخصية، لذا كان للنقد العلمي شرطان: العلم وسلامة القصد. لقد زرع التعصب والانحياز وقلة التأمل والاستعجال والرؤية النصفية والتصور المشوش (أزمة الفهم)، وصار ضحيتها مثقف الناس - وياللأسف - قبل عامتهم، وكبارهم قبل صغارهم، حتى إنك لتعطي كتاباً لفلان يقرأه فيأبى أن يستفيد لأنه كذا وكذا، ويحكم على الكتاب قبل قراءته بناء على حكم مسبق سمعه عنه، وقد يسمع لفلان من الناس، لا للاستفادة والتقويم، بقدر ما لتتبع الخطأ والعثرة، فيخطؤه وإن لم يخطأ بناء على فهم قاصر ونية مشوبة، وفي ترجمة الشيخ محمد بن عبدالوهاب ذكروا، أن أحد علماء الهند اتخذ موقفاً من الشيخ، بناء على ما سمع عنه من جفاء بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولياء الله الصالحين، وتطرف في فهم التوحيد، فسافر أحد طلبة العلم للهند، وصحب معه كتاب التوحيد للشيخ محمد، الذي كان العالم الهندي يحذر منه ولم يقرأه، واستبعد الغلاف الذي كُتب عليه اسم المؤلف، وطلب من العالم أن يقرأ هذا الكتاب، ليرى رأيه فيه، فما برح أن أثنى عليه بعد أن انتهى منه، وأثنى على من كتبه، فأخبره بأن الكتاب من مؤلفات ابن عبدالوهاب، فرجع العالم عن قوله في الشيخ، وما ذاك إلا لإنصافه وصدقه، وصار يترحم عليه في كل مجلس من مجالسه العلمية، ويحض طلابه على قراءة كتب الشيخ محمد واقتنائها، فما أحوجنا لتصحيح الأحكام لكثير من المؤلفات والأشخاص بناء على المنهج القرآني، الذي ربانا فيه القرآن على التثبت والتحري فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ). إن علينا أن نحذر من إلقاء الكلام على عواهنه، ومن الاستعجال في إطلاق الأحكام، وترك الإجمال في موضع التفصيل، والتفصيل موضع الإجمال، وفقدان النظرة التفصيلية، وإقصاء الموضوعية الصحيحة في مسائل النقد والخلاف، وإغفال التحري وعدم الدقة والتدقيق والاستيعاب للقضايا المطروحة، لنكون فهماً صحيحاً ينبني عليه حكم عادل. ورحم الله ابن القيم حين قال: «ما أكثر ما ينقل الناس المذاهب الباطلة عن العلماء بالأفهام القاصرة». * داعية وأكاديمية سعودية [email protected]