ترى لماذا لم يستطع العقل الإسلامي أن يبلور كينونته المعاصرة في إطار يستوعب اللحظة الحضارية؟ وترى أيضاً لماذا استبدل غث القضايا بسمينها؟ وكيف يستأصل علاته ويجدد خلاياه منطلقاً نحو آفاق الوجود الفعلي المؤثر؟ وما هي البرمجة الفكرية الحقة التي ينبغي أن تمثل استراتيجية الوعي الخلاق القائد بالضرورة لنتائج إبداعية تستنهض الواقع عاملة على إحيائه وتألقه؟ وهل يجب أن تتبدل مفردات هذا العقل ويتغير منطقه عموماً، أم تتغير طبيعة هذه المفردات سالكاً سبيلاً آخر بعد أن ضاقت عليه ذاته؟ وهل يستشعر هذا العقل عمق مأساته ومدى استفحالها بما يمثل الدعوة الصريحة نحو تقييم وضعيته؟ ولعل من أولويات القضايا التي يتعثر هذا العقل في معالجتها هي قضية الأقصى ذات التعرجات والتحورات المنصبة في خط ثابت، ففي هذا الطور نراه قدَّم استراتيجية للتدافع مع الذات، وليس للتواجه مع الآخر الذي هو محور الإشكالية في امتداداتها التاريخية والمستقبلية. وبمعنى آخر لم يستعرض تكنيكات ذهنية يمكن أن تعصمه من مآزق ذلك الآخر المتجبر الذي لا يهدأ من دون أن يحيك خدعة أو مؤامرة أو فتنة يستفز بها ذلك العقل الرتيب. ويتطابق ذلك مع آخر الأمثلة تجسيداً وإشارة وهي تلك الانتهاكات الآنية الصارخة في محاولة مستميتة لاقتحام الأقصى مجدداً وتنفيذ مخطط لولبي لبناء مبنى ضخم في ساحة البراق يطلق عليه اسم «بيت هليباه» ليستوعب نحو ثمانية ملايين سائح، وقد اعتمدت آليات كثيرة تمهيداً لإقامة ذلك الصرح منها: تسخير الكتيبة الإعلامية والدعائية لنشر صور مروعة للمسجد، وقد أزيلت منه قبة الصخرة، وتخصيص كاميرات للمراقبة داخل باب المغاربة ترصد كل مصلى، ذلك بجانب إغلاق أبوابه كاملة بالسلاسل الحديد على من فيه من المصلين. وانطلاقاً من ذلك فقد طرحت خريطة طريق ليستبصر بها الساسة العرب ويعتبروها استراتيجية الخلاص، ويلفظون منطق التنديد والشجب والمناشدة، وقد تبلورت نقاط هذه الاستراتيجية في ضرورة الوقف الفوري لقرار الحكومة الإسرائيلية بضم نحو مئة وخمسين موقعاً أثرياً فلسطينياً لقائمة الآثار اليهودية، وسدِّ جميع الأنفاق أسفل الأقصى مع الوقف الفوري أيضاً لكل أعمال الحفر والهدم للمباني والمنازل الأثرية في القدس، والسماح للبعثات الآتية من الدول العربية والإسلامية بترميم كل ما خلَّفته أعمال الحفر من هدم وتخريب في الأقصى وإدخاله مرة أخرى ضمن قائمة التراث الحضاري العالمي بعد شطبه آنفاً، إضافة إلى حتمية إرسال لجان متخصصة من علماء الآثار في الدول العربية والإسلامية للوقوف على الوضع الحالي للأقصى، كما يجدر رصد وضع الآثار الفلسطينية التي تأثرت أو دمرت بفعل الجدار العازل وتقديم تقارير بكل ذلك للمنظمات العربية الإسلامية والدولية المهتمة بالتراث مع وضع سبل الحماية وكيفية تنفيذها. كما تحتوي تلك الاستراتيجية على عدد من المحاور الأخرى يتصدرها مراجعة القرارات الدولية لا سيما قرارات اليونسكو المتعلقة بحماية التراث، والتي تخالفها إسرائيل متحدية المجتمع الدولي واتخاذ الإجراءات القانونية من طريق اتحاد المحامين العرب والمنظمات الحقوقية، وكذلك هناك ضرورة ملحة نحو إنشاء صندوق خاص لحماية وترميم الآثار الفلسطينية يكون مناوئاً للصناديق الإسرائيلية التي تمول أعمال الحفر والتخريب في الأقصى، وتبقى آخر هذه المحاور متضمنة لتوثيق عروبة القدس بإنشاء مركز علمي خاص بجامعة الدول يحوي الكتب والوثائق والدراسات الخاصة بالقدس، بجانب الوثائق الخاصة باجتماعات لجنة التراث العالمي سنوياً وتبادلها عربياً وإسلامياً. تلك هي بنود استراتيجية الإنقاذ المطروحة على الساحة العربية والإسلامية والتي تتبلور معطياتها في خطوات كان يجب أن نكون قد فرغنا منها لا سيما وتجاوز عمر القضية عقوداً طويلة، من ثم هل تمثل محاور هذه الاستراتيجية جبهة ردع أو تكون ضامنة لعدم تكرار الاعتداءات والانتهاكات مستقبلاً، وما شأن ذلك بدحض المزاعم المدعومة بالقوى العسكرية والنووية التي تتبدل معها خرائط الحقوق وقيم الوجود بصكوك الغطرسة والكينونة الزائفة؟ إن القراءة الصحيحة لمفردات القضية كانت تقتضي وتستوجب استخدام لغة الواقع بحيثياتها المتعددة وليست اللغة الافتراضية المثالية التي تفتقر إلى آليات تعد محققة للأهداف المرجوة، فاللحظة المعاصرة لها ظروفها وشروطها، بل وقوانينها التي لم تغفل أبداً أن الأقصى هو أكثر الأماكن في العالم شهوداً لتحولات جيوبوليتيكية؛ نظراً الى قوة وضعف واحدة من الدول المجاورة، وهو ما كان مبرراً للقتال من أجل التوسع والانتهاك وتغيير الجغرافيا. وإذا كانت دائرة الحضارة العربية الإسلامية، كما يقول أحمد صدقي الدجانسي، هي واحدة من ثماني دوائر حضارية، فإن الحلقة المركزية في دائرتها الحضارية هي جزء من الوطن العربي في جناحه الشرقي وفلسطين والقدس في بؤرتها، وتشغل هذه الدائرة قلب قارات آسيا وإفريقيا وأوروبا وتجاور خمساً من الدوائر الحضارية الأخرى، فإن القضية في حاجة ماسة لأن تتصدر طاولة الحوار العالمي لنرى البعد الآخر فيها والترجمة السياسية والاستراتيجية لها على صعيد العقل الغربي مع إعلاء شأنها بعمق التحالف العربي الإسلامي، والاستمساك بأسس المقاومة وجذور الإيمان المطلق بالحق والقناعة الدافعة نحو الثقة بالذات في أسمى درجاتها، وإذا كان العرب اليوم وفي إطار دوائر التردي والرجعية يوصفون بأنهم أحجار صماء فإن الحكمة القديمة تقول: إنه داخل الحجر الأصم ربما تحتدم ثورة عظيمة، وأن حجم الإنسان يزداد دائماً كلما كانت الريح أقوى. * كاتب مصري