شاء القدر أن أشهد عملياً –بعد أكثر من ثلاثين عاماً– ما دعوت إليه نظرياً بشأن اليابان، حيث كنت بمعية الملك حمد بن عيسى آل خليفة، ملك البحرين في زيارته الأخيرة لتلك القوة الشرقية. فقد كتبت عن «الظاهرة االيابانية» وصعود الشرق الجديد، وضرورة الاستفادة من ذلك مطلع الثمانينات. ثم جمعت مقالاتي عن هذه الظاهرة في كتاب «العالم والعرب سنة 2000» الصادر في ايار (مايو) عام 1988 عن «دار الآداب» ببيروت. وقد قوبل الكتاب باهتمام النخب الثقافية في عالمنا العربي. وكان مضمون تلك الدراسة إن قوة صاعدة يشهدها الشرق، والخليج العربي أقرب المناطق العربية جغرافياً، ثم إن النفط الذي يمثل شرياناً حيوياً لليابان ينتجه الخليج العربي، وقد بدأ اهتمام اليابان الجدي بالقضية الفلسطينية والقضايا العربية الأخرى بعد الحظر العربي النفطي الذي جاء مع حرب أكتوبر 1973. وقد أشرت في تلك الدراسة عن الصعود الياباني والقوى الشرقية، إن هذه القوى –بخلاف القوى الغربية– لا ترتبط بإسرائيل والجذور الصهيونية بأية روابط تاريخية أو دينية. وقد مهد الطريق المغفور له الملك فيصل بن عبد العزيز نحو حوار عربي–شرقي جدي. وعلى خطاه ذهب الملك عبدالله بن عبد العزيز إلى الشرق الجديد، تأكيداً لاستمرار الرابطة المستجدة مع قوى ذلك الشرق. ومن الشائق قراءة ما كتبه الفريق أول ركن الأمير خالد بن سلطان بن عبد العزيز، نائب وزير الدفاع السعودي حالياً، وقائد القوات المشتركة في حينه لتحرير دولة الكويت من احتلال صدام، في كتابه التوثيقي الهام «مقاتل من الصحراء» عن زياراته المتعددة للصين الشعبية –سراً– بأمر الملك فهد بن عبد العزيز، الذي قرر أن تتسلح المملكة العربية السعودية بصواريخ «رياح الشرق» الصينية، بعد التعنت الأميركي في تسليح السعودية وتزويدها بما تحتاجه من أسلحة للدفاع عن نفسها أيام احتدام الحرب العراقية–الإيرانية. وقد لجأ الأمير خالد بن سلطان بن عبد العزيز إلى وسائل كثيرة من «التخفي»، حفاظاً على «سرية» المهمة. ومن طرائف ذلك التخفي، أنه التقى في هونغ كونغ «مصادفة، سمو أمير البحرين (الراحل)، فسألني مستفسراً عن سبب زيارتي، فأجبته بأنني أقضي إجازتي هناك. ولا أعتقد أنه صدق ذلك، ولا سيما أنه رأى في رفقتي ذلك العدد الكبير من الضباط السعوديين، وعلى كل حال، فإن لباقته المعهودة حالت دون استرساله في السؤال (كما) لم تخل مفاوضاتنا مع الصينيين من بعض المفارقات» (ص 174)، لكنها انتهت بحصول السعودية على صواريخ «رياح الشرق» الصينية (ص 96). وذكر في الأنباء أن اتصالات سعودية صينية سبقت إرسال قوات «درع الجزيرة» إلى مملكة البحرين، بعد أن تبين الموقف غير الإيجابي من الولاياتالمتحدة الأميركية حيال هذا الأمر، وكان لا بد من التلويح بالورقة الصينية. وقد اكتشف الوفد البحريني الذي ذهب إلى طوكيو بدعوة شخصية من الإمبراطور أكيهيتو إلى الملك حمد بن عيسى لزيارة اليابان، مدى «صدق» اليابانيين في مواقفهم وعدم تناقضها وازدواجها، ورغم أن القوى الغربية تتواجد في الخليج العربي منذ مئات السنين، فإن التفهم الياباني –مثلاً– فاق أي تفهم غربي لظروف المنطقة وأوضاعها. كما كانت ثمة رغبة صادقة في التعاون الصناعي والتقني الذي تتفوق فيه اليابان. والدليل على ذلك اللقاءات المثمرة التي أجراها الوزراء البحرينيون مع نظرائهم اليابانيين على هامش الزيارة. ولدى الملك حمد فكرة استيراد جامعة علمية تقنية متكاملة من اليابان، فاليابان بلد العلوم والتقنيات الحديثة. وإذا قام بزيارة ثانية لليابان، فلا بد أن يمر بكيوتو، العاصمة القديمة، وهيروشيما التي تلقت الضربة النووية الأولى في تاريخ الإنسانية وأقام اليابانيون متحفاً يراه زائرو هيروشيما لآثارها التدميرية الهائلة. وقد رآه كاتب هذه السطور في زيارته الأولى لليابان. وبعد أن انتهى من رؤية معروضاته كافة عن التفجير النووي، أصيب بحالة غضب شديدة، وسأل مرافقه الياباني: ما تنوون فعله؟ فأجابه بابتسامة غامضة قالت الكثير! إن اليابان بلد الشمس المشرقة مرشحة لإقامة علاقات تعاون مع دول الخليج العربية كافة ومدخلها البحرين وهي مؤهلة لذلك لصدقها في التعامل. وهناك أيضاً، في المشهد الشرقي، القوة الصينية والنموذج الماليزي والتجربة الاندونيسية. ولا بد من التنويه أن كلاً من ماليزيا واندونيسيا بلدان مسلمان. وهذا ما يشد الانتباه، في وقت يتجه فيه معظم الدول العربية إلى الخيار الإسلامي. والملك حمد بن عيسى قائد يقرأ التطورات ويحرص على متابعتها، وقد رأى في اليابان، سواء في لقائه مع إمبراطورها أو مع رئيس حكومتها، أو مع قادة برلمانها، أو مع رجال أعمالها ما يدعو إلى متابعة التعارف والتعاون، ليس مع اليابان وحدها، فهي رائدة النهضة الشرقية، ولكن مع كل من الصين وماليزيا واندونيسيا. فالصين مثلاً، قوة صاعدة قد ترث الولاياتالمتحدة وأوروبا في النفوذ الدولي، في عصر تغيب فيه إمبراطوريات وتظهر أخرى ... حيث أشرت في كتابي المذكور، منذ ذلك الوقت، إلى أن القوى البيضاء التي سادت العالم على وشك التراجع لصالح قوى من أجناس أخرى. والمعروف أن دول مجلس التعاون تتقارب بجهد سعودي يقوده الملك عبدالله بن عبد العزيز آل سعود، ويتجاوب معه ملك البحرين الذي تستضيف بلاده القمة الخليجية المقبلة حيث سيتقرر شكل الاتحاد الخليجي، ومن سيشارك فيه. ولا شك في أن زيارات القادة الخليجيين للقوى الكبرى في العالم، من شأنها أن تؤشر إلى أنه لا مستقبل إلا للكيانات الكبرى، فلمثل ذلك فليعمل العاملون! * أكاديمي وكاتب من البحرين