الناس في المملكة العربية السعودية لا يخرجون عادة للتسوق في الصباح، بسبب انشغال أفراد الأسرة كل في وظيفته ودراسته، وبسبب حرارة الجو، واستعاضت النساء عن ذلك بالخروج من منازلهن للتسوق بعد صلاة المغرب؛ لارتباطهن برجل الأسرة لنقلهن إلى الأسواق أولاً، ولانخفاض الحرارة قياساً مع النهار ثانياً، وبسبب بُعد المسافات بين المنازل والأسواق، والزحام الشديد، لا تتمكن بعض الأسر من الوصول إلى أهدافها إلا قبيل صلاة العشاء بوقت قصير، فيفاجأون بإغلاق أبواب المحال قبل الصلاة بعشر دقائق، بذريعة أن أصحابها أو العاملين فيها قد غادروا للوضوء، استحضاراً للصلاة، ومَنْ لا يذهب منهم للصلاة في المسجد يستغل الوقت الطويل المخصص لصلاة العشاء لقضاء مصالحه الشخصية، ويستغل بعضهم وقت الصلاة بالمكوث داخل المحال التجارية، بعد إغلاق أبوابها من الداخل كسباً للراحة، والتلهي؛ فتضطر النساء إلى البقاء مع المحرم في السيارات، أو الانتظار في الأسواق من دونهم، ما يعرضهن للمضايقات والمعاكسات من ضعاف النفوس، وأحياناً إلى السرقة، ولذلك يلاحظ تراكض الأسر في الشوارع والأسواق بعد صلاة المغرب، حرصاً منهم على شراء حوائجهم قبل صلاة العشاء، ومن لا يلحق منهم مرامه يُلزَم الانتظار إلى ما بعد صلاة العشاء. إن فتوى تأخير صلاة العشاء في هذا الزمان يجب الاجتهاد فيها لما لها من أهمية في حياة الناس، فمفهوم مصطلح «الاستصلاح»، هو بناء الأحكام الفقهية على مقتضى «المصالح المرسلة»، والعوامل الداعية للاستصلاح هي: جلب المصالح، وهي الأمور التي يحتاج إليها المجتمع لإقامة حياة الناس على أقوم أساس، ودرء المفاسد، وهي الأمور التي تضر بالناس، سواء مادياً أو خلقياً، والتي هي هنا انتظار النساء في الشوارع والأسواق وتعرضهن لما لا يحمد عقباه؛ وتغير الزمان، أي اختلاف أحوال الناس وأوضاع الحياة العامة عما كانت عليه. يقول ابن عابدين في «نشر العرف»: وعلى هذا الأساس أسست القاعدة الفقهية القائلة: «لا يُنكر تغير الأحكام بتغير الأزمان»، ويقول: «إن كثيراً من الأحكام يبنيها المجتهد على ما كان في زمانه، فتختلف باختلاف الزمان لتغير عُرف أهله، أو لحدوث ضرورة، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير»، وعَرَّف العُرف بأنه: «هو عادة جمهور قوم في قول أو عمل، ويتحقق وجوده إذا كان مطرداً بين الناس في المكان الجاري فيه، والدليل الشرعي على اعتبار العُرف قوله تعالى: (خذ العفو وأمر بالعرف)، ويستأنس بهذا المعنى الاصطلاحي أن عُرف الناس في أعمالهم ومعاملاتهم هو ما استحسنوه وألفته عقولهم»، والسنة النبوية حين حددت وقت صلاة العشاء كانت تراعي العُرف زمن الرسول «صلى الله عليه وسلم» إذ الناس كانت تنام باكراً؛ أما الآن فالعرف أصبح سهر الناس إلى منتصف الليل، على أقل تقدير. في «صحيح البخاري» ما يدل على أن تأخير صلاة العشاء مرتبط بمصالح الناس واجتماعهم لأدائها، وأن فيه سعة، قول جابر بن عبدالله: «والعشاء إذا كثر الناس عجَّل وإذا قلّوا أخَّر». وما يدل على استحباب تأخيرها قول أبي موسى: «كان يتناوب النبي «صلى الله عليه وسلم» عند صلاة العشاء كل ليلة نفر منهم، فوافقنا النبي «صلى الله عليه وسلم» أنا وأصحابي، وله بعض الشغل في بعض أمره، فأعتم بالصلاة حتى إبهار الليل، ثم خرج النبي «صلى الله عليه وسلم» فصلى بهم»، وعن أبي برزة: «كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يستحب تأخيرها»، وفي رواية أنس، رضي الله عنه «أخّر النبي، صلى الله عليه وسلم، العشاء إلى نصف الليل». وفي «صحيح البخاري» أيضاً ما يدل على أن الأصل في صلاة العشاء هو تأخيرها، فعن عبدالله بن عمر، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله «صلى الله عليه وسلم»: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بتأخيرها»، وفي رواية مسلم: «لولا أن يثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة»، وفي «تحفة الأحوذي» عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال النبي، صلى الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه». قال المحقق المباركفوري: قوله: «لولا أن أشق»، من المشقة. أي لولا خشية وقوع المشقة عليهم لأمرتهم، أي وجوباً، إلى ثلث الليل أو نصفه»، قال ابن حجر في «فتح الباري»: «فعلى هذا من وجد به قوة على تأخيرها، ولم يغلبه النوم، ولم يشق على أحد من المأمومين، فالتأخير في حقه أفضل»، أي أن المشقة المقصودة هي سبب التعجيل في صلاتها، ومادامت المشقة في هذا الزمان تحدث بعدم تأخيرها، وجب تأخيرها؛ لأن «لولا» حرف امتناع لوجود، أي حرف يدّل على امتناع شيء لوجود غيره، يتضمن معنى الشرط، الذي هو هنا المشقة. وفي «المغني» و«كشاف القناع» قال الحنابلة: الصلاة في أول الوقت أفضل إلا العشاء، أما العشاء فتأخيرها إلى آخر وقتها المختار، وهو ثلث الليل أو نصفه أفضل، ما لم يشق على المأمومين، والقول في أن الأصل في تأخيرها إلى نصف الليل هو قول: إسحاق، والثوري، وابن المبارك، وأبي ثور، والشافعي، وأحمد، وأصحاب الرأي. إن قضية التيسير ورفع الحرج والمشقة عن الرعية واجبة على أولياء الأمور، فالله سبحانه وتعالى لا يكلف عباده ما لا يطيقون، ولا يلومهم بشيء يشق عليهم، إلا جعل الله له فرجاً ومخرجاً. قال الجصاص في «أحكام القرآن»: «لما كان الحرج هو الضيق، ونفى الله عن نفسه إرادة الحرج بنا؛ ساغ الاستدلال بظاهره في نفي الضيق وإثبات التوسعة في كل ما اختلف فيه من أحكام السمعيات»، ويقول الطوفي في «الإشارات الإلهية»: «إن الله عز وجل لم يشرع حكماً إلا وأوسع الطريق إليه، ويسره حتى لم يبق دونه حرج ولا عسر». وكما أفتى العلماء بجواز تأخير صلاة العشاء في رمضان، ينبغي لهم بيان مدى صحة الفتيا طوال السنة. * باحث في الشؤون الإسلامية. [email protected]