يعزّ على المشاهد، وهو يتنقل بين الأقمار الاصطناعية ومئات الفضائيات العربية، أن يعثر على كثير من برامج تطرح قضايا جادة. فمن بين عشرات البرامج التي تتحدث عن «مشاكل زائفة» كالأبراج والحظوظ والمسابقات السخيفة وسهرات الخفة والتسلية والأغاني الهابطة... ثمة برامج قليلة تنجو من هذا الاستسهال لتخوض في مسائل شائكة ومهمة، وهذا ما رأيناه في الحلقة الأخيرة من برنامج «حوار العرب» الذي يبث على محطة «العربية» وتقدمه الإعلامية منتهى الرمحي. ناقش البرنامج في هذه الحلقة قضية التأليف والنشر في العالم العربي، وسعى للإجابة عن أسئلة عدة: هل يمكن أن نتحول الى «أمة تقرأ»؟ وهل غيّرت الثورات العربية في موضوعات التأليف؟ وما هو مستقبل الكتاب الورقي في ظل هيمنة ثقافة الصورة؟... واستضاف البرنامج لهذا الغرض الروائي الليبي ابراهيم الكوني، والناشر اللبناني بشار شبارو، والكاتب والأكاديمي السعودي سعد صويان الذين أغنوا الموضوع المطروح بمداخلات جريئة وجادة، إذ كشف البرنامج عن معلومات وأرقام مرعبة حول النسب المتدنية للقراءة في العالم العربي، والمعوقات التي تعترض سبيل النشر والتوزيع، ومسألة الرقابة، وكميات الطباعة، وضآلة مستوى الدعم الرسمي الذي تتلقاه صناعة النشر... إلى غير ذلك من المحاور التي تحتاج إلى حلقات مطولة لدراستها ومناقشتها. ما يسجل ل «العربية»، هنا، هو أنها اختارت موضوعاً على هذا القدر من الحساسية والخطورة، خصوصاً أن الفضائيات العربية الكثيرة أهملت هذا الجانب، وهذا ليس مجرد كلام نظري، بل يستطيع أي متابع أن يلاحظ انه إزاء العشرات من الفضائيات المتخصصة في الرياضة... مثلاً، لن يجد فضائية واحدة تختص بعالم النشر والكتب. ومع أن الأدبيات العربية تتغنى بالكتاب، وتنظر إليه بوصفه «خير جليس في الأنام»، لا يترجم هذا الولع على الشاشات التي تحفل بمواد إعلامية تبدو وكأنها مفبركة لملء ساعات البث الطويلة، متجاهلة مواضيع كثيرة؛ معقدة ومزمنة تعاني منها المجتمعات العربية. لا نريد لهذه الزاوية أن تتحول الى منبر «توجيهي ووعظي»، كما قد يتجلى في السطور السابقة. لكن الأرقام حول نسب القراءة المتدنية، ونسب الأمية العالية المنتشرة في العالم العربي، ونسب طباعة الكتب القليلة، تكشف عن «فضائح ثقافية ومعرفية». وما يزيد من مرارة هذه المعضلات هو ان الكتب الرائجة في معارض الكتب، كما أظهر البرنامج، هي كتب الطبخ والأبراج والموضة. من هنا، لا حرج في رفع الصوت عالياً ودعوة الفضائيات للاهتمام بهذا الجانب المتعلق بالقراءة والنشر، وتضييق الهوة بين «النخبوي» و «الشعبي»، إذا جاز التعبير. ولعلها من المرات القليلة التي يطل فيها ابراهيم الكوني صاحب «التبر» و «نزيف الحجر» على الشاشة من خلال هذا البرنامج، وهو الذي صنّف مع خمسين روائياً آخر ممن «يمثلون أدب القرن الحادي والعشرين»، فضلاً عن قائمة طويلة من الجوائز، ومع بخل الفضائيات إزاء مثل هذه القامات، فإنها مفتوحة، بلا حدود، أمام الكثير من المهرّجين والثرثارين والمنجمين ومطربي الدرجة العاشرة...