سجال واسع تشهده الساحة الإعلامية في مصر اليوم، والسبب كتاب صدر حديثاً، يحمل عنوان «البغاء الصحافي في مصر» للصحافي أشرف عبدالشافي. يقدم الكاتب الذي يعمل في صحيفة «الأهرام» في كتابه الصادر عن «دار ميريت» نصاً مهماً من نصوص الشهادة يتقاطع مع نصوص أخرى عرفتها مصر في العام الأخير تراجع مواقف النخب الإعلامية والثقافية والسياسية التي غيّرت خطابها بعد «ثورة 25 يناير»، من خطاب داعم لنظام الرئيس السابق حسني مبارك... الى خطاب يندد ب «خطاياه» ويسعى إلى التوافق مع الثورة، وربما الانقلاب عليها في الوقت المناسب. ويمكن اعتبار النصّ (الكتاب) نصاً من نصوص «أدب التجريس» المعروف في التراث المصري. فهدفه، الى جانب الكشف والإدانة، حماية الذاكرة الصحافية من التلاعب والتذكير بعمليات التواطؤ المهني وتأمل المسافة مجدداً بين الكاتب والحاكم. يركز الكاتب بحس روائي ساخر على نماذج لبعض المقالات التي كتبها صحافيون - يذكرهم بالاسم - في صحف تزعم «استقلالها»، في حين انها تعبّر عن مصالح رجال الأعمال، كما يشير الكتاب. يقدم عبدالشافي توصيفه لكلمة «البغاء»، مؤكداً انه ليس مقصوداً منها سوى توصيف حال عامة وليس إدانة لأحد من هؤلاء الإعلاميين، لكن فعل الإدانة يفرض نفسه مع كل صفحة من الكتاب الذي ينشط ذاكرة الصحافيين ويثير لديهم شهوة أكبر من «النميمة». وخلافاً لاعتقاد محللين كثر، يشير الكتاب بوضوح الى أن نظام مبارك الاستبدادي لم يستمد شرعيته من رؤساء تحرير الصحف المملوكة للدولة، لأن بعضهم (...) كانوا «مساكين مهنياً ومتواضعين في الموهبة» في نظر عبدالشافي الذي يرى جازماً أن نظام مبارك استقوى واستمد جبروته من عباقرة «المعارضة الفنية»، وفق تعبيره. ويعطي مثالاً يقترب من دراسات تحليل المضمون التي تدعم فكرته، مقارناً بين معالجة الصحف الحكومية لعيد ميلاد مبارك وبين معالجة الصحف التي يملكها رجال أعمال ل «الحدث» ذاته، منتهياً الى أن الأخيرة تبنّت نهج «المحبة الناعمة» بدلاً من صحافة البلاغة التي أوجدتها الصحف القومية. ويلفت المؤلف الى أن معارضة مبارك الإعلامية كانت تقوم على نظرية «النباح اللطيف» الذي يحرس حديقة الملك من اللصوص. فراحت قوى المعارضة المتنوعة اللطيفة تُكشّر عن أنياب بلاستيكية وتهاجم الرئيس ونجله وعدداً من المحسوبين على النظام، وفق مصالح وصفقات محددة المعالم. ويرى الكاتب ان نظام مبارك اكتسب مشروعيته من معارضيه «العباقرة» في ممارسة لعبة الصفقات الصغيرة والكبيرة أيضاً، إذ ساد منطق «خد حتّة... وسيب حتّة». وكانت ورقة التوريث هي الأفعى التي التهمت كل الأوراق، فلا حديث عن رحيل نظام أو تنحي رئيس، فقط حديث ممتد عن جمال مبارك بطريقة ساعدت على تكريس التوريث وتفعيله بالقوة، بحيث يظل والد جمال متربعاً على العرش إلى حين صعود الابن بهدوء. ويعود عبدالشافي الى الأرشيف، متوقفاً أمام مقالات معينة تؤكد وجهة نظره بأن ثمة لعبة على صعيد التوازنات والصفقات كانت تدار بين النظام والمعارضة، إذ وُزعت «كعكة» جمال مبارك «بحيث يكسب الجميع، وليحقق المعارضون ثروات ويسكنوا قصوراً ويحصدوا الآلاف والملايين طالما تسير عملية التوريث (...) في مسارها «التوافقي»، في أكبر عملية «بغاء» صحافي شهدتها مصر عبر السنوات الست الماضية»، وفق الكتاب. واللافت ان اتهامات الكاتب لم تتوقف عند الصحافيين الذين ربطتهم علاقات برموز نظام مبارك المحبوسين حالياً، وإنما امتدت تلك الاتهامات أيضاً إلى المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين ذات الغالبية البرلمانية حالياً، متسائلاً: هل كان مكتب الإرشاد بعيداً من النظام؟ ألم يرفض المشاركة في «جمعة الغضب»، قبل أن يركب عليها لاحقاً؟ ألم يعلن الحرب على قياداته التي أعلنت رفضها خوض الانتخابات البرلمانية؟ كما يتساءل: كم صحافياً معارضاً ركب طائرة مبارك وضحك على قفشاته السخيفة وعاد ليكتب عن الرئيس الإنسان أو عن الوجه الآخر للرئيس؟ وفي مقابل الصحافيين الذين يصفهم ب «المرتزقة»، يقدم الكاتب نماذج أخرى مضيئة مقاومة للفساد، يذكر منها: عبدالله السناوى وخالد البلشي ووائل قنديل وسعيد شعيب وأكرم القصاص ومحمد طعيمة وعمار علي حسن... وغيرهم، مؤكداً ان الثورة المضادة التي حاولت تفريغ «ثورة يناير» من مضمونها قادها رموز معارضة مبارك في الفضاء الصحافي من «المرتزقة المُهَجّنين الذين عاشوا على النظام وتكسّبوا منه، ويخرجون اليوم من كل صوب ليغسلوا أيديهم بدماء الشهداء أو يحاولوا إعادة تسويق رموز مبارك وتقديمهم في صور الأبرياء والضحايا. ويخرج عبدالشافي الى دائرة أكثر وهجاً في الفصول التي كتبها عن صحافيين من ذوي المكانة الكبرى (...) مؤكداً أن مقالات الأول عن الثورة في سورية تشير الى أنه «مرتبك للغاية وحائر»، فيما كانت مواقف «الأستاذ هيكل» - كما يزعم - حافلة بالتحولات التي لا تخالف في مضمونها مواقف الصحافيين الذين كانوا مع مبارك وانقلبوا عليه. فهيكل بدأ من الولاء للملك فاروق، مروراً بقلب عبدالناصر وحتى التخطيط لانقلاب 15 أيار (مايو) 1971 مع السادات الذي انقلب عليه أيضاً. يعطي كتاب «البغاء الصحافي» الكثير من المعلومات والحكايات الطريفة المكتوبة بطريقة شعبية قادرة على إثارة دهشة من هم من خارج المهنة والمعنيين ب «الذاكرة الوطنية». أما من هم داخل مهنة الصحافة، فلديهم الكثير الذي يمكن كتابته، لكن تعوزهم الشجاعة التي قادت عبدالشافي إلى أن يكتب كتابه... ليصبح «ضد الجميع».