تقف الثقافة على الخط الأمامي في النزاعات التي يشهدها العالم. استولت قوات الطوارق المتمردة على المدينة التاريخية القديمة «تمبوكتو»، وأُطلقت القذائف النارية في محيط المسجد الكبير في هذه المدينة، وهو المسجد المندرج في قائمة مواقع التراث العالمي لليونسكو. وحدث ذلك عقب قذْف المدينة السورية الأثرية «أفاميا» بالقنابل. أما قلعة «المضيق» وسائر القرى العتيقة الواقعة شمال سورية، وهي جميعها مندرجة ضمن مواقع التراث العالمي لليونسكو، فإنها معرضة للأضرار الجانبية. ومن ثم فعلينا أن نقوم بحمايتها. قد يبدو من غير المناسب أن نشجب الجرائم التي تُرتكب ضد الثقافة وأن ندعو إلى حمايتها في وقت تسود أوضاع سياسية غير مستقرة وأزمات إنسانية حادة، لكنّ الأمر على خلاف ذلك. إن حماية الثقافة إنما تمثل قضية أمنٍ. فلا يمكن تحقيق سلام دائم من دون احترام للتراث الثقافي. والممارسات العدوانية التي تستهدف التراث الثقافي إنما تعتبر انتهاكاً لهوية المجتمعات ذاتها. ومثل هذه الممارسات إنما هي في واقع الأمر خطوة رمزية وحقيقية من شأنها تصعيد النزاعات، مما يفضي إلى إحداث دمار يتعذر إصلاحه، إذ أن تداعياته تظل قائمة لفترة طويلة بعد أن تهدأ الأمور. إن الممارسات العدوانية التي تُرتكب ضد الماضي تجعل من الصعب قيام المصالحة في المستقبل. وذلك لأن هذه الممارسات تعترض سبيل المجتمعات التي ترمي إلى تحقيق السلام في ما بينها. ومن ثم فإن حماية التراث الثقافي لا يُعتبر البتة ضرباً من الترف. فليس من الممكن أن نؤجل القيام بذلك إلى وقت أفضل، أي عندما تهدأ التوترات. ومن أجل تمهيد السبيل لتحقيق السلام، يجب علينا منذ اللحظة أن نعمل على حماية الثقافة، في هذا الوقت الذي تزداد حدة التوترات. ولقد رأينا ما يمكن أن يحققه التراث العالمي في مجال الجمع بين المجتمعات المنقسمة في ما بينها وتعزيز التعاون الدولي في السياقات الصعبة. وعلى سبيل المثل، شاهدت ذلك بنفسي في جنوب شرقي أوروبا عندما قدمت اليونسكو مساعدتها في إعادة تشييد جسر موستار القديم، الواقع في البوسنة والهرسك، والذي دُمّر أثناء الحرب التي اندلعت هناك في تسعينات القرن الماضي. وقد بدت قوة الثقافة أيضاً أثناء أعمال ترميم مجموعة قبور «كوغوريو» في كوريا الشمالية، وهي التي تمت بدعم مالي قدمته كوريا الجنوبية. أما في تونس ومصر وليبيا فإن المجتمعات هناك تعتمد اليوم على تراثها الألفي كي تأتلف في ما بينها وتوجه أنظارها نحو المستقبل. وفي هذه الفترة التي تتزايد فيها عوامل عدم اليقين وتقل الموارد، فإن ذلك إنما يمثل أمراً من الأمور الثمينة التي لا يمكننا التغاضي عنها. بيد أن ذلك ليس بالأمر اليسير. إن تحقيق النجاح في هذا المضمار يقتضي أن تتحد الأمم في ما بينها. وذلك لأن مفهوم التراث العالمي في ذاته يعتمد على فكرة المسؤولية الجماعية من أجل تحقيق الصالح العام. وقد نشأت هذه الفكرة في مصر في مطلع ستينات القرن الماضي عندما انطلقت الحملة الدولية الرامية إلى إنقاذ آثار النوبة ونقل معابد «أبو سمبل» وحمايتها من أخطار الغرق. وبعد مضي أقل من جيل بعد الدمار الذي أحدثته الحرب العالمية الثانية، قامت حملة للتضامن العالمي من أجل حماية الأحجار والتماثيل، وكذلك من أجل الحفاظ، من خلالها، على مفهوم الإنسانية المشتركة التي ننتمي إليها. إننا نحتاج اليوم إلى قيادة تتسم بالطموح. إن حماية التراث الثقافي للعالم إنما تخصنا جميعاً. فهذه الحماية تمثل دعامة قوية للتفاهم المتبادل ومصدراً للتنمية المحلية. وتُعتبر اليونسكو الحارس الأمين لهذه الفكرة الذي يحرص على تحقيقها. ونحن نحتفل هذا العام بذكرى مرور أربعين عاماً على توقيع معاهدة التراث العالمي التي تجسد هذه الرؤية. غير أن ذلك إنما يمثل عملية هشة لا يمكن البتة ضمان نتائجها. أن بضعة قذائف فقط تكفي لتدمير موقع تراثي ألفي تدميراً نهائياً. ونحن نتذكر جميعاً تماثيل بوذا العملاقة في باميان بأفغانستان التي دُمرت تدميراً كاملاً. كما أن ساعات قليلة من النهب والسلب تكفي لاختفاء قطع أثرية لا تُقدّر بثمن والاتجار غير المشروع بها. ولهذا السبب تُذكّر اليونسكو جميع الدول بالمسؤولية التي تقع على عاتقها في ما يخص حماية الممتلكات الثقافية في حالة نشوب نزاعات وحظر الاتجار غير المشروع بالقطع الثقافية والتصدي له. ولهذا السبب أيضاً فإننا نعمل مع السلطات الوطنية والمنظمة العالمية للجمارك والإنتربول والمجلس الدولي للمتاحف، بالإضافة إلى دور المزادات العلنية، وذلك لحماية التراث الثقافي للإنسانية وحظر نهبه. إننا نقوم بكل ذلك لأننا نعتقد أن الثقافة إنما تمثل أهمية بالنسبة إلى السلام. ومسؤولية حمايتها تقع على عاتقنا. * إيرينا بوكوفا، المديرة العامة لمنظمة الأممالمتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، وهذا النص خصت به «الحياة»