تنجب النساء المغربيات أطفالاً أقل فأقل. وينفين لو سُئلن إذا كانت رغبتهن الفعلية التقليل من متاعب الأمومة والرعاية لتلبية متطلبات الحياة بالدراسة والعمل، وتحقيق الذات وتحسين مستوى المعيشة، مع توفير إطار أفضل لحياة أسرة صغيرة العدد. ولو خُيرن لأنجبن أطفالاً أكثر، فخفض مرات الإنجاب اضطرار لا اختيار. حوالى نصف المستجوبات (43 في المئة) كُن ممن يتقاسمن رغبة دفينة في إنجاب طفل إضافي، أي طفلاً ثالثاً فقط. وهو الأمر الذي كشفته أخيراً دراسة حكومية حديثة لوزارة الصحة المغربية في محور يتعلق باتجاهات الخصوبة في المجتمع المغربي. تغيرت كثيراً ملامح الأسرة المغربية في بحر ثلاثة عقود بينما يعيش المجتمع تحولات اجتماعية واقتصادية وقيمية عميقة. تأخرت سن الزواج وتراجعت الخصوبة وانخفض معدل الإنجاب. ولا يقف بعيداً شبح شيخوخة المجتمع المغربي، وإن كان سيظل محافظاً على شبابه إلى عام 2030 (نحو 8 ملايين في عمر أقل من 15 سنة). بدأ في عقد السبعينات من القرن الفائت العد العكسي لمعدلات الخصوبة في المغرب نتيجة اقتران عوامل متعددة، على رأسها تقبل استخدام وسائل منع الحمل واختراقها الأسرة التقليدية (8 في المئة فقط من المغربيات كن يستخدمن أقراص منع الحمل في 1962) وتحسن فرص التعليم وزيادة حظوظ حصول المرأة على فرص العمل... كما عملت العوامل السلبية على خفض الخصوبة، كالبطالة وبروز شبح المستقبل المجهول مع الأزمة الاقتصادية العنيفة في عقد الثمانينات والتي اتسمت برفع أسعار الخدمات العمومية والطاقة والمواد الغذائية وخفض الإنفاق العمومي على الخدمات الاجتماعية... مجمل هذه العوامل، سلبية وإيجابية، أثرت حتى المجتمع القروي الأكثر محافظة، فالقرية استغنت عن سواعد الأطفال، وقد كانوا يُعدّون رأسمال قيماً يساهم بقسط وافر في تحمل أعباء الحياة الكثيرة في الحقل والرعي والبيت، فيما تحولوا إلى عبء مع مواسم الجفاف المتكررة في العقود الثلاثة الأخيرة وارتفاع تكلفة العيش، وصار فارق الأطفال بين المرأة القروية والمرأة الحضرية اليوم طفلاً أو اثنين. لقد كان البيت المغربي يضج بخمسة أطفال إلى ستة قبل ثلاثين عاماً. أما في الوقت الراهن فقد خفت ضجيج الصغار، إذ فقدت الأسرة المغربية ثلاثة أطفال مقارنة بوضعها في عقد الثمانينات، وفق ما أكدته دراسة حكومية حول النمو الديموغرافي والتحولات الكبرى للبنيات السكانية نشرت الصيف الماضي في مناسبة اليوم العالمي للسكان. وانتشر استخدام وسائل منع الحمل وسط نسبة عريضة من النساء، فست من كل عشر نساء في يومنا هذا يلجأن إليها لتنظيم النسل. وتعد الأقراص الأكثر شيوعاً في صفوف المغربيات (حوالى 49 في المئة)، لأنها الوسيلة الأسهل والأضمن والأسلم لمنع الحمل غير المرغوب فيه. بيد أن إنجاب طفل ثالث ليس مجرد رغبة دفينة عبرت عنها المغربيات أخيراً. فقد لوحظ بالفعل ارتفاع طفيف في مؤشر الإنجاب العام الماضي مقارنة بآخر دراسة أنجزت عام 2004. لكن الدراسة لم تقدم تفسيراً لذلك، وربما يتعين مراقبة تطور المؤشر في السنوات اللاحقة لتوفير تحليل اجتماعي واقتصادي شامل. ويظل هذا المعطى الجديد بارقة أمل لانتعاش الخصوبة عند المغربيات. وفي حال سار المؤشر تصاعدياً بمرّ السنين، سيكون بمثابة بشرى إيجابية لعودة الروح إلى مؤسسة الأسرة المغربية المتهمة بنظر علماء الاجتماع بالفردانية والتفكك. وعلاوة على انتشار وسائل منع الحمل، تُعزى أسباب انخفاض الخصوبة لدى المغربيات إلى عامل ثان، هو تأخر سن الزواج الأول لدى الجنسين، من دون أن يختلف الوضع كثيراً في ما بين المدن والقرى. ففي المدينة يتزوج الرجل في عمر 32 سنة والفتاة في عمر 27 سنة، وفي القرية يتزوج الرجل في عمر 29 سنة والفتاة في عمر 25 سنة. لم تشكل الدراسة الأخيرة أي صدمة اجتماعية، حتى أنها لم تفاجئ أحداً. فكلما أجريت دراسة جديدة تتعلق بالسكان، تتكشف الملامح نفسها للمجتمع المغربي السائر نحو نمط مجتمعي وقيمي عصري، قطع في عمر جيل واحد مع التركيبة التقليدية التي قامت على أساس العائلة الممتدة، والأسرة الكثيرة الأفراد، وقيم التآزر والتضامن.