محافظة جنوب لبنان منطقة غنية بالسهول الخصبة والمياه الوفيرة، كما تعجّ بالمعالم الأثرية والتاريخية من صور إلى صيدا إلى قلعة الشقيف «أرنون» وغيرها. وإذا كانت صيدا عاصمة الجنوب تشتهر بقلعتيها البرية والبحرية وأسواقها القديمة ومنازلها التراثية، فإن على تخومها الشمالية إشارات أعدتها وزارة السياحة اللبنانية تشير إلى وجود «معبد أشمون» التاريخي... فنتوجه إلى هناك. على كتف «نهر الأولي» الذي يصبّ في البحر الأبيض المتوسط تنتشر مقاهٍ ومتنزهات وجلسات هادئة. تخترق سيارتنا طريقاً ضيقاً للوصول إلى «معبد أشمون» بسبب وجود عشرات السيارات للمتنزهين والسابحين في مجرى النهر، غير العابئين، على ما يبدو، بوجود معلم أثري مهم! نقف أمام بوابة بيضاء كبيرة ليبدأ مشوارنا مستعينين بمنشورات وزارة السياحة وموقع بلدية صيدا «صيدا نت» لنتمكن من معرفة تاريخ هذا المكان واستقاء المعلومات عن مراحل بنائه وترميمه وما إلى ذلك. والجدير بالذكر أن موجودات معبد أشمون الثمينة وأهمها النواويس والتماثيل محفوظة في المتحف الوطني اللبناني. يقع «معبد أشمون» على تلة تبعد مسافة 3 كلم شمال شرقي المدينة على الضفة اليسرى لنهر الأولي، في المنطقة المعروفة اليوم باسم بستان الشيخ. كرّس هذا البناء الديني لأشمون. ويحتمل أن الأعمال البنائية الأولى في هذا المكان سابقة للعهد الفارسي (أي من أواخر القرن السابع ق.م.)، بيد أن هذا الصرح الديني لم يكتمل ولم يأخذ شكله النهائي إلا في القرن السادس ق. م. خلال حكم أسرة أشمون عزر الصيدونية. وقد بني في جوار نبع مهم ما زالت مياهه تجري شرق الموقع، وهو النبع الذي عرف في النصوص الفينيقية باسم «عين يدل». غير أن تطور طقوس العبادة وتبدلها كانا من عوامل استمرار أعمال البناء طوال قرون عدة. إلا أن ما بقي قائماً من المعبد الأساسي (من القرنين السادس والخامس ق.م.) يكاد يقتصر على الضفّة العالية (القاعدة)، حيث كان يرتفع هيكل بناه الملك الصيدوني «بود عشترت» في أواخر القرن السادس ق.م. ويبدو أنه تعاقب في هذا المكان نفسه معبدان من مرحلتين مختلفتين: الأول من القرن الخامس ق.م. وقد نقلت منه إلى المتحف الوطني في بيروت عناصر معمارية جميلة من الرخام هي عبارة عن تيجان أعمدة على شكل مقدمَي ثورين رابضين متدابرين، وقواعد أعمدة منحوتة. ويرجح أن يكون هذا المعبد المبني وفق الطراز المعماري الفارسي، دمر أثناء ثورة المرازبة عام 351 ق.م. أما المعبد الثاني فهو من الطراز الكورنثي ولم يبق منه سوى أطلال مبعثرة. وثمة مصطبة أخرى مبنية بحجارة كلسية أصغر حجماً من تلك المستخدمة في المعبد السابق، ربما تعود أيضاً إلى أواخر القرن السادس ق.م. من عهد أشمون عزر الثاني الذي شيد فوقها على ما يبدو معبداً لم يبق منه سوى قاعدتي عمود من الحجر الكلسي وبعض العناصر الزخرفية المعمارية. وتعود إلى هذا العهد أيضاً تلك البنى المعمارية المميزة التي يفترض أنها كانت جزءاً من مساكن خصصت للقيمين على المعبد ولزواره من الحجاج. وهنالك مجموعة من تماثيل رخامية صغيرة تمثل أطفالاً وتحمل إهداءات طقوسية باللغة الفينيقية نقلت بدورها إلى المتحف الوطني. أما ذلك النظام المعقد من أقنية المياه في جوار المعبد فما زالت آثاره باقية في أماكنها إلى اليوم. وفي العهد الهلينستي، استمرت ممارسة الطقوس في المعبد حيث أضيفت إليه أبنية جديدة منها المصلى الذي ما زلنا نرى فيه عرشاً كبيراً من الحجر، جانباه على شكل أبي الهول ويعرف باسم عشتروت. وفي جوار هذه القاعة آثار بناء كبير من المرحلة التاريخية نفسها تزينه منحوتات ناتئة تستلهم الميثولوجيا اليونانية. أما في الشمال الشرقي من المصطبة الرئيسة، فبنيت في القرن الرابع ق.م. منصة أشمون المزينة بمشاهد مستوحاة من الميثولوجيا اليونانية هي اليوم في المتحف الوطني. وأمام هذه المصطبة شُيد في القرن الثاني الميلادي بناءان لم تحدد هويتهما بدقة يفصل بينهما صف من الأعمدة (من القرن الثالث) وزينت أرضيتهما بالفسيفساء الجميلة. وعلى مقربة منهما بناء مقدس يعرف باسم معبد هيجيا. وهنالك صف آخر من الأعمدة بني والكنيسة البيزنطية في القرن الرابع. بيد أن لم يبق من هذه الأخيرة سوى الأساسات وأرضية من الفسيفساء. الزوار والسياح الذين يزورون هذه المنطقة يجمعون بين متعتين متكاملتين: متعة الانبهار بالطبيعة الخلابة على ضفاف نهر الأولي، ومتعة مشاهدة البقايا الأثرية التي تحكي جزءاً من تاريخ المنطقة. وفي فصل الصيف تزدحم الطرقات المجاورة بسيارات المواطنين الذين يهربون من حر الصيف للانغماس في برودة مياه النهر المنعشة.