لا بدّ للمؤرخ المعني بالتطور الفكري في العالم العربي من أن يلاحظ ابتداء من العقود الأولى من القرن التاسع عشر، اتجاه العالم العربي الى التحوّل والتطوّر بفعل الإصلاحات العثمانية، وحملة نابليون على مصر، وقدوم البعثات التبشيرية. فيحصر المؤرخ من أصول فلسطينية نقولا زيادة في هذا السياق، مظاهر التحوّل في العالم العربي في ثمانية عناصر هي «المدرسة والجمعية والصحيفة والمطبعة والرحالة، وشباب البعثات والترجمة والتأليف»، ويوضح أنّ هذه العناصر « كانت الوسائل التي أدّت الى الأخذ بالجديد والاهتمام بأسباب التقدّم في الغرب». ويذكر المستشرق الفرنسي جاك بيرك أنّ «النواة الأولى للأفكار الغربية تكمن في بذرة جامعية استطاعت تكوين هذه النخبة الثقافية التي تدين بحمولتها الثقافية الى غرب، منحها جواز عبور نحو الشرق، عبر مؤسسات حصرها بيرك في «جامعتي بيروت الأميركية واليسوعية، والمدرسة الفرنسية للحقوق في مصر، وجامعة مدينة الجزائر، ومعهد الدراسات المغربية». ويشير المفكر الفلسطيني هشام شرابي إلى أن النظرة العقلانية التي ولّدتها الثقافة الجديدة طرحت أطر تفكير جديدة. « ففي المراكز الناطقة باللغة الفرنسية كالكلية اليسوعية ومعظم المدارس المذهبية الأخرى في لبنان، كان النمط السائد هو التوجّه الإنساني، أما المراكز الناطقة باللغة الإنكليزية، كالكلية السورية البروتستانتية التي صار اسمها فيما بعد الجامعة الأميركية في بيروت، كان الميل نحو تعليم ليبرالي علمي». شكلت الجامعة الأميركية في بيروت إذاً، المكان الذي انتشرت منه الأفكار الليبرالية في العالم العربي التي حملها معهم المهاجرون الإنكليز الى أميركا عند اكتشافها، وعاد بها الى لبنان والعالم العربي مجموعة من الرجال كان من بينهم دانيال بلس ورفاقه. أفكار أكّدت حقّ الإنسان أن يحيا حراً كامل الاختيار، ووفق قناعاته. وهذا ما تكشفه بيتي إس أندرسون في كتابها الذي ترجمه الى العربية عزمي طبة بعنوان «الجامعة الأميركية في بيروت - القومية العربية والتعليم الليبرالي» (الأهلية للنشر والتوزيع). تشير الاقتباسات من خطب رؤساء الجامعة في الكلية السورية البروتستانتية في بيروت إلى أن أنظمة التعليم التي تمّ استيرادها من أميركا، تؤيّد بناء الشخصية انطلاقاً من سلّم قيم يعتبر الإنجيل كتاب الهداية، والبروتستانتية الطريق المؤدية الى الخلاص. فقد دعا دانيال بلس، الرئيس الأوّل للكلية من 1866 حتى 1902، الطلاب إلى حضور الخدمة الدينية المسيحية وصفوف تعليم الإنجيل بغض النظر عن عقيدتهم الدينية، لكنّ الكلية لم تحوّل أيّ طالب عن دينه، تأكيداً لما أعلنه بلس في خطابه الوداعي عام 1902 «يمكن للإيمان في غياب المعرفة أن يصبح معتقدات خرافية، ولكنه يصبح مع المعرفة إيماناً عقلانياً». لكنّ أنظمة التعليم أخذت تلاقي بعض الصعوبات التي بدأت تبرز مع هبوب رياح التغيير في الكليات والجامعات الأميركية. فقد أدّت الاكتشافات العلمية، وضغوطات المجتمع السائر الى التصنيع، إلى توسيع قاعدة المساقات التي تدرّسها، وإعادة النظر في نظرياتها في عملية التدريس. ونتج من هذه التحوّلات نظام تربوي أميركي ليبرالي جديد، لا يرتكز على تدريس جزء محدّد من المعرفة، وإنما على غرس المهارات المطلوبة في الأذهان لتحليل المعلومات. ويعكس تاريخ الكلية السورية البروتستانتية، أو الجامعة الأميركية في بيروت، هذا التحوّل في أساليب التدريس. وعندما تحولت الكلية إلى «الجامعة الأميركية في بيروت» عام 1920 انتهت مهمّتها التبشيرية مع اسمها الجديد، وحدّد التعليم الليبرالي بعد ذلك الأهداف الإنسانية لبرنامجها، وشكّل نقطة محورية لمعظم النقاشات والحوارات والنزاعات التي حصلت بين الإدارة والطلاب. يقوم التعليم الليبرالي الذي مارسه المؤسسون دانيال بلس وابنه هوارد بلس وبايارد دودج وغيرهم من الرؤساء على استيحاء الفلسفة الليبرالية التي تدعو الى استقلال الفرد، والتزام الحريات الشخصية، وحماية الحريات السياسية والمدنية، وترى أنّ الهدف الأولي للتعليم الليبرالي هو تدريس الطلاب كيف يفكّرون، أي التفكير الفاعل القائم بالدرجة الأولى على التفكير المنطقي الحرّ، الذي ينطلق من مقدّمات سليمة توصل الى استنتاجلت سليمة. وحتى يتسنّى تفعيل التفكير المنطقي الحرّ، سعى أساتذة الكلية الى تدريس طلابهم الأدوات الضرورية للحوار البنّاء، والنقاش والنقد لأي موضوع، بعد أن يكون الطلاب قد فهموا قوانين التسامح، والاحترام الضرورية للانخراط في النقاش. وبفعل هذه الطريقة في التعلّم تحوّل هدف التبشير بالبروتستانتية في الكلية الى مناخ للتبشير بالحداثة. وعبر حقبة القرن العشرين جعل رؤساء الكلية من مبدأ «صنع الرجال» برنامجاً أوّلياً يتمثّل بتخريج قادة متنوّرين ذوي رؤية. وعند وصول المرأة الى حرم الجامعة لدى تبنّي التعليم المختلط في عشرينات القرن الماضي، توسّع الحوار ليشمل الأدوار الصحيحة للمرأة في المجتمع الحديث. هذا الانتقال من التحوّل الديني الى برنامج بناء الشخصية لاءم بشكل مثالي أطر التعليم الليبرالي، لأن البرنامج الجديد بني على فرضية الإيمان بأن الحرية ترافقها المسؤولية ولا يمكن إلا لرجال ونساء ذوي شخصية متفوّقة أن يفهموا بشكل صحيح المهمات التي يقومون بها في المجال التربوي. تذكر مؤلفة الكتاب أنّ المبشرين الأميركيين وصلوا الى المنطقة في العام 1820 مع فكرة مسبقة عن «الهوّة» بين الغرب المتقدّم ونقيضه الشرق العربي المتخلّف. فقد قال هوارد بلس عن السوريين في مؤتمر السلام عام 1919 «أنهم أذكياء وقادرون ومضيافون... ولكن كانت لديهم عيوب شعب يقف وجهاً لوجه أمام نتائج الحضارة، من دون المرور في محطات الحضارة. إنهم يفتقرون الى التوازن، ويحبطون بسهولة، ويفتقرون الى العدالة السياسية، ولا يدركون بسهولة حدود حقوقهم الخاصة». إن انطباع بلس عن العرب السوريين يتطابق مع انطباعات الرؤساء الأوائل الذين تسلّموا مهمة إدارة الجامعة الأميركية في بيروت الذين كانوا يعبّرون عن أملهم بأن ينشر خريجو هذه الجامعة النموذج الحضاري الأميركي البروتستانتي في مجتمعاتهم «المتخلّفة». اعتمد طلاب الجامعة الأميركية بمعظمهم النموذج الليبرالي الأميركي وطعّموه مع ما قاله كتّاب عصر النهضة. ولكن مع الوقت، بدأوا بتناسي السمات الغربية التي كان يتعيّن عليهم كرجال ونساء أن يكتسبوها، لمصلحة أبطال من مجتمعاتهم العربية، وذلك بفعل قومية عربية أعيد تنشيطها في ثلاثينات القرن العشرين على يدي قسطنطين زريق وفيليب حتي وزين نورالدين زين. ولكن في منتصفه فصاعداً، ناضل الطلاب بفعل الأحداث التي لفّت العالم العربي من أجل الحصول على هوية سياسية عربية قومية. ونتيجة للمفاوضات بين الإدارة والطلاب بقيت الكلية تقتدي بالهيكل التعليمي الليبرالي الأميركي، ولكنها أصبحت مؤسسة عربية أيضاً. يقول الرئيس الأخير للجامعة الأميركية في بيروت بيتر دورمان عن رؤيته لدور الجامعة الأميركية في بيروت: «تزدهر الجامعة الأميركية في بيروت اليوم بشكل مختلف جداً عما رآه مؤسسوها المبشرون. ولكن مع ذلك، وبعد هذا الوقت الطويل، تبقى الجامعة مكرسّة للمُثل نفسها، المتمثلّة بتخريج قادة متنوّرين ذوي رؤية»، يسعون إلى تحقيق الشعار الذي يزيّن البوابة الرئيسة للجامعة في بيروت «لتكن لهم حياة وليعيشوها بسعة أكثر». كتاب بيتي إس . أندرسون عن الجامعة الأميركية في بيروت دليل يستحقّ التقدير، لإحاطته بحركة المثقافة بين الغرب الأميركي وبيروت العالم العربي، وتوضيحه لكلام جائر يقال عن هذه القلعة الثقافية التي كانت ولا تزال موضع تقدير لدورها التنويري في العالم العربي.