في كل حضارة وثقافة، يميل البعض داخل تلك الثقافة أو الحضارة، إلى اعتقاد أن لديه في هويته الدينية أو الثقافية ما مِنْ شأنه «إنقاذ» العالم، وحلّ مشكلاته، وعلاج أمراضه، وتقديم الهناءة والسعادة له. وفي ظل أجواء من احترام الحرية والانفتاح على الذات والآخر يمكن أن يعطي هذا الميل «نسخاً حضارية» متعددة للتقدم والرخاء وإدارة الدول والمجتمعات بتعقل وحكمة تمنح العيش الكريم واحترام الإنسان. وفي غياب هذه الشروط يصبح هذا الميل ضرباً من التعصب والانغلاق على الذات وتحجّر الهوية والنزوع نحو إقصاء الآخر وعدم الاعتراف بتنوع الناس والحياة، وثراء دنيانا وتوافرها على ألوان لا تنتهي. لقد تجاوزت المعرفة الإنسانية العميقة النظر إلى الإنسان بوصفه وحدة متناغمة منسجمة قابلة للتصنيف والتبويب، وإحصاء صفات أساسية له، وأخرى ثانوية أو هامشية أو متقلبة، وذلك بتأكيد أن ذلك مجرد مقاربة، لا تخلو من «وهم» يزعم القبض على تضاعيف النفس والروح، وهو «وهم» يغفل عن حجم التناقضات والتحولات والانزياحات الواسعة التي تعيشها الشخصية الإنسانية وهي تمارس عيشها المديد واستقبالها للعالم. كذلك تجاوزت المعرفة الإنسانية الحديث عن هوية صافية نقية ذات بعد جوهراني، وصار المفكرون يتحدثون في عالمنا المعاصر عن الهويات المنفتحة والهجينة، وعن «وعي هجين» ناجم عن التلاقي الثقافي واختلاط المعارف والأفكار وتزاوجها وإخضاعها باستمرار للنقد وربما النقض والتجاوز. ويؤكد المفكر الإيراني داريوش شايغان عدم وجود ثقافات مستقلة ككل منسجم قائم بذاته. وفي الوقت الذي تبحث ثقافة أو هوية ما عن نقائها وصفائها واستقلالها، فإنها تتجه سريعاً نحو التحجر والجمود والتطرف، وتعيش تحت سراب نقاء الذات/ الأنا، والإحساس ب «الاكتفاء الذاتي» حضارياً، والذي يفترض في الحقيقة إقصاء الآخر أو تهميشه أو النظر إليه بوصفه «محروماً» من نعيمها القائم والقادم. ثمة نزوع يشتد يوماً بعد يوم نحو التسطيح والاختزالية والإطلاقية، أحد أسبابه التوهم بأن بإمكان ثقافة ما أو هوية ما أن تنقذ العالم وتحل مشكلاته وتقضي على أوجاعه من دون حاجة إلى الآخرين وثقافاتهم وخبراتهم وتجاربهم وتعاونهم. وهذا خطأ ارتكبه الغرب حين رأى أن نموذجه الحضاري فقط هو الأصلح للبشرية، من دون مراعاة للشروط الثقافية والتاريخية التي ينطوي عليها أي مجتمع يتجه نحو التقدم والتنمية. وهو خطأ يرتكبه عرب ومسلمون حين يظنون أن ما لديهم يغنيهم عن العالم وأفكاره وتجاربه وخبراته. مثل تلك الاختزالية والأوهام أحد أسبابها رداءة محتوى المناهج الدراسية في مدارسنا وجامعاتنا، حين تعالج مسائل التاريخ والحضارة والثقافة ومسألة الهوية على وجه خاص، من دون أن تركّز على أن هذه الهوية هي في الحقيقة معطى قابل للتغير والتشكّل والتعديل والإضافة والتجديد، وأن هويتنا اليوم ليست نسخة عن ماضينا، بل طرأ عليها الكثير من المتغيرات. الوعي القائم على أن بإمكان طرف ما في هذا الكون حلّ مشكلات الناس والحياة، هو نزوع أعمى نحو «أدلجة الحياة» وادّعاء امتلاك الإجابات، وهو بالمحصلة تدمير لما تراكم منذ قرون من حلول ومقاربات إنسانية عامرة بالتعقل والحكمة والعمق. في الغرب، صدرت في الأشهر الأخيرة تصريحات من مسؤولين وزعماء، تذهب إلى الهُزء بأوهام «إنقاذ العالم»، ورفض أنْ يكون طرف واحد هو النسخة الحضارية التي يجب على الجميع محاكاتها. فقد قال الرئيس الأميركي باراك أوباما في مقابلة مع «بي بي سي» بداية حزيران (يونيو) الماضي إن الولاياتالمتحدة لا يمكنها أن تفرض قيمها على الدول الأخرى. ولكن أوباما اعتبر في مقابلته أن سيادة القانون والديموقراطية وحرية التعبير والديانة «قيم عالمية»، «وأهم ما يمكننا (كأميركيين) القيام به هو ان نكون نموذجاً يقتدى به». كذلك أقرّ وزير الخارجية البريطاني، ديفيد ميليباند في خطابه المهم الذي ألقاه أواخر أيار (مايو) الماضي أمام «مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية» بأهمية احترام التنوع والاختلاف الثقافي بين الشعوب، مشدداً على «أن بداية إصلاح الخلل (بين الغرب والعالم الإسلامي) يكون بالإقرار بأن هناك اختلافات بين الغرب والعالم المسلم وبقية العالم، وأنْ ليس هناك طريقة واحدة تُحدّد «كيف يجب أن نحيا»، لكنه أكّد على رغم ذلك وجود قيم كونية وحقوق أساسية يؤمن بها الجميع. قراءة ميليباند هذه أقرب إلى نقد مفهوم «المركزية الأوروبية أو الغربية» التي صوّرت الغرب وكأنه «النموذج» الوحيد الصالح لممارسة الحياة اجتماعاً وثقافة وسياسة واقتصاداً، ونظرت إلى الثقافات الأخرى نظرة استعلاء وتفوق و «عنصرية» أحياناً، باعثة برسالة أساسية بأن بقية الأمم والدول لن تصلح أحوالها إلا باتّباع الغرب، وبتبني نموذجه الثقافي أو الحضاري. ووفق هذا الطرح البريطاني الإيجابي الجديد يغدو «الغرب» (وهو ليس واحداً بل متنوّع) تجربة ثرية مهمة جداً تغري بالاستفادة والتعلّم، وأخذ الدروس والمعارف والعلوم والخبرات، وليس سياقاً للنقل الحرفيّ الذي لا يراعي الشروط الثقافية والمحلية، من دون أن يكون ذلك تبريراً للاستبداد أو قهر الإنسان أو «سَرْمَدة» التخلف. الغرب هنا وفق الوعي العفيّ الذي يهجس به أوباما وميليباند «نموذج» وليس «النموذج»، لكنّ هذا الوعي، في الوقت ذاته، يبدو ذكياً بالتنبه إلى أن شرط رفض النموذج الغربي أو تجاوزه، لا يكون بالتخلي عن المنجزات الهائلة التي أنتجها «الغرب» وغيره، ولا يكون بالتخلي عن قيم إنسانية تتعلق بحرية الناس العامة والخاصة وحقوقهم ومكتسباتهم، إذ يبقى أمام أي ثقافة أو حضارة تحدي أن تنتج نماذج أخرى تتقدم وتتفوق على النموذج الغربي، وذلك عبر تقديم مزيد من إمكانات وفرص العيش الكريم للإنسان، واحترام الحريات والعدالة، وجعل الحياة مكاناً أفضل وأجمل للعيش والتسامح والإبداع والإنتاج والتنمية واحترام الآخرين وقهر الأمراض والفقر والجوع والحروب، وهو ما ليس بإمكان طرف واحد إنجازه وتحقيقه، حتى لو توهم بأن في ثقافته ودينه «وصفة» سهلة ووحيدة ل «إنقاذ العالم». * كاتب أردني.