على رغم الاختلافات السياسية العميقة في العالم العربي وانقساماته الدموية، يبقى هناك موضوع واحد يحظى بإجماع عابر للطوائف والأحزاب، وهو مدى سوء عهد الرئيس الأميركي السابق جورج بوش. مهما حاولنا البحث عن محافظ جديد عربي، لن نجد ممثلاً لهذا التيار، وبخاصة عند الحلفاء السياسيين للسياسة الأميركية. فقد وصل الإجماع النابذ للرئيس السابق إلى حد من «الطبيعية» حتى أصبحت شتيمته أقرب إلى الكلام عن الطقس من السياسة، أو إلى أحاديث تكسر الصمت بين غرباء أو تمرر الوقت في جلسات مضجرة. بُني هذا الموقف الرافض من الرئيس الأميركي السابق على اعتبار أساسين لسياسته تجاه العالم العربي، أي التدخل الأجنبي والموقف المعادي من الإسلام. فأصبح عهده رديفاً لفاجعات كاحتلال العراق والمسّ بسيادة دول أخرى وتدهور العلاقة مع المسلمين والخلط غير البريء بين الإسلام كدين والقاعدة كإرهاب، وغيرها من المواقف التي رسخت كره المنطقة لهذا الرئيس. وجاء الرد على هذه الانتهاكات على شكل التمسّك المرضيّ بالسيادة الوطنية من جهة، وشعار الحوار مع الإسلام السياسي من جهة أخرى، وهما عنوانا المرحلة السابقة. غير أن ما كان منبوذاً قبل سنة أصبح أكثر شعبية في العالم العربي مع انطلاق ثوراته، وبالأخص الثورة السورية. فقد تمّ استيراد فرضيات جورج بوش وتوطينها لتتحول إلى جزء لا يتجزأ من الخطاب السياسي العربي. هكذا، فعملية تلخيص الإسلام بالإخوان المسلمين، والإخوان بالسلفيين، والسلفيين بالقاعدة، لم تعد حكراً على «استشراق غربي»، بل أصبحت ملك تيار ممانع وبعض ممثلي «مسيحيي الشرق» وجزء من النخبة الحداثوية العربية. فمن اضطرار داعمي «حزب الله» «الإسلامي» وحركة حماس «الإسلامية» لاستذكار علمانيتهم، دعماً للقضية المركزية، أي الحفاظ على ما تبقى من النظام البعثي، إلى محاولة البطريرك الماروني الجديد حصر الطائفة السنية في جماعة الإخوان، والإخوان في العمليات الإرهابية في العراق، كما صرح في باريس في أواخر العام الفائت، تبيّن أن الخطاب العربي لا يختلف كثيراً عن نظيره الاستشراقي. والدلالة الأخيرة على عملية استملاك خطاب جورج بوش محلياً كانت في تبني أدونيس مقولة «الإسلامية الفاشية»، وهي العبارة الأكثر ارتباطاً بخطاب المحافظين الجدد عن الإسلام السياسي (الحياة، 25-2-2012). عملية توطين الموقف المنبوذ لم تقف على هذا الحد، بل امتدّت لتشمل الأساس الثاني للسياسة الأميركية السابقة، أي مبدأ التدخل الأجنبي. فبعدما شكّل هذا المسّ بالسيادة الوطنية الشرّ المطلق في المخيلة السياسية العربية، أصبح اليوم مطلباً أخلاقياً، مصحوباً باتهام للغرب بعدم المبالاة لتلكّؤه في ارسال جيوشه إلى سورية. غير أن عملية استيراد هذا العنوان كانت أقل تخبطاً بسبب عدم استعداد المستورد للموقف الجديد الداعم للتدخل الإنساني. فعلى امتداد قرن كامل، تعامل الفكر السياسي العربي مع العلاقة مع الغرب من باب العدوان المطلق، مفككاً أي تصريح أو ممارسة غربية بوصفهما نتاجاً لمؤامرة كونية ضد سيادة الأمة العربية. وعندما ظهر الوجه الحقيقي لهذه السيادة، في بابا عمرو وإدلب وتلكلخ، كنماذج عن هذه السيادة، لم يجد هذا الفكر إلاّ الحرج والتخبّط لصوغ موقفه وتبريره. ظهر التباس المطالبين بالتدخل الأجنبي على يافطة رفعت في كفرنبل في أواخر العام الفائت، كُتب عليها بالإنكليزية: «إلى زعماء الناتو: إذا دفع الليبيون بالنفط، سنبيع منازلنا لتغطية ثمن التدخل». هكذا لخصت عبارة واحدة موقف الفكر العربي بأكمله من الغرب ومسألة التدخل، دامجة نظرة مؤامراتية للعلاقات الدولية مع مطلب أخلاقي، ومصحوبة باستحالة تخيّل مصالح مشتركة مع هذا الغرب، وملخصة كل علاقة إلى عملية بيع وشراء، تنتهي صلاحيتها مع اتمام الصفقة. فبعدما مضى هذا الفكر سنوات في تفكيك روايات التدخل الإنساني، لم يجد إلاّ البيع والشراء للمطالبة بالتدخل نفسه. لقد انتهى عهد جورج بوش بحذاء رمي عليه وعلى ما يمثّله. ولكن بعد ذهابه، بقيت المسائل التي طرحها على الساحة السياسية، وتبيّن أن أجوبة اللاعبين المحليين لم تختلف كثيراً عما قاله من كانوا قبلهم، أو أنها كانت أكثر تخبطاً مما قدمته إدارته. هذا ليس للقول بضرورة إعادة قراءة المرحلة السابقة، ولكن للتحرر منها من خلال الدعوة إلى إعادة التفكير بهذين العنوانين، وربمّا لرمي البعض بهذا الحذاء الذي اختتم به عهد الرئيس الأميركي. * كاتب لبناني