يعكس العديد من الترجمات المغربية، من الفرنسية إلى العربية في الغالب، ثلاثة وجوه للمترجم. مع الاحتفاظ بهوية المترجم التي ألصقت به طيلة قرون: الخائن، أومبدد المعنى وفق تعبير فالتر بنيامين في دراسته الهامة والصعبة، (مهمة المترجم). La tache du traducteur والتي لم تفهم إلا نادرا: ولعل أفضل من عبر عن تلك الهوية هو «دومينيك أوري» في مقدمته التي وضعها لكتاب «المسائل النظرية للترجمة لجورج مونان» حين يقول: «نحن المترجمين مشاة جيش الكتاب، نحن البديل المتعارض، المكد، شبه المجهول في ملاك النشر». أين تتجلى تلك الهوية الشقية؟ هل في اللعنة المطاردة ل «المترجم الخائن»؟ هل في الشكوك المسبقة التي تراود قارئ الترجمات؟ هل لأن المترجم هو ذاك الذي يتوسط لإعفاء القارئ من قراءة النص الأصل؟ هل لأنه، مهما بلغ علمه واتقانه للألسنة، لا يمكن أن يكون في قيمة وأهمية الكاتب الذي يترجمه، وفق تصور الجاحظ؟ نعم تلك الهوية كامنة في كل ذلك، لكننا سنحاول تتبعها هنا من خلال إعطاء ثلاثة أمثلة من كتب مغربية مترجمة (ويمكن أن تكون تلك الأمثلة عربية أو فرنسية أو إنكليزية): الكتاب الأول هو رواية «ثلاثية الرباط» لعبد الكبير الخطيبي، بترجمة فريد الزاهي (منشورات الرابطة، 1998)، والثاني هو «مدخل إلى نظريات الرواية» لبيير شارتييه بترجمة عبد الكبير الشرقاوي (دار توبقال، 2001)، والثالث هورواية «الموريسكي» لحسن أوريد، بترجمة عبدالكريم الجويطي (دار أبي رقراق، 2012). سنبدي ملاحظات على المترجم من خلال ظهور اسمه على هذه الكتب. يحمل غلاف رواية «ثلاثية الرباط» اسم الكاتب عبد الكبير الخطيبي وعنوان الكتاب فقط. أما المترجم فريد الزاهي فيجب التفتيش عليه في صفحة العنوان الداخلية، بل في أسفلها. إنه إخفاء للخائن المبدد. أما كتاب «مدخل إلى نظريات الرواية» فيحمل اسم الكاتب «بيير شارتييه» في أعلى صفحة الغلاف، وتحته عنوان الكتاب، وتحت العنوان مباشرة يوجد اسم المترجم بخط أصغر قليلاً من الخط الذي كتب به اسم المؤلف، لكنه بارز على حال. أما رواية «الموريسكي» فهي تحرق القلب فعلاً، إذ تم إخفاء المترجم أشد ما يكون الخبء والستر، بحيث لا يمكن أن يقرأ أو يلاحظه أحد. فعلى القارئ أن يبحث عنه في الصفحة الثانية، إلى جانب تاريخ النشر واسم الناشر، ورقم الإيداع القانوني. إن المترجم مجرد معلومة. إذا كان بيير شارتييه منظراً للرواية وأستاذاً بجامعة باريس 7، أي أنه من فرنسا، وبالتالي فهو بعيد عن فضاء النشر بالمغرب، فإن مترجمه عبد الكبير الشرقاوي حضر إلى جانبه في الكتاب، أو على الأصح اقتسم معه فضاء الغلاف، دون أن يتمكن شارتييه من إبداء ملاحظاته على هذا الاقتسام. ويمكن القول أيضاً إن الشرقاوي ظهر على الغلاف، لأن المسؤولين عن الترجمة في دار توبقال هما أيضاً من المترجمين البارزين: محمد بنيس وعبد الجليل ناظم. وبالتالي فقد سمحا للمترجم أن يغادر جيش المشاة ليلتحق بالفرسان، أو بجيش الكتاب وفق تعبير دومينيك أوري. المترجمون الثلاثة، كما يعرفهم المغاربة على الأقل، يجتهدون لتحسين أدائهم الترجمي، بل هم على المستوى الرمزي، يحاولون استكمال اجتراح المعجزات التي بدأتها بابل: إثبات القرابة بين اللغات. لكن رغم ذلك فقد لحقتهم الإساءة والإخفاء، إمعاناً في تكريس «سمعة الخائن» الذي لا يمكن الوثوق فيه. وهنا نطلب العون قليلاً من الجاحظ، الذي ربما قد يساعدنا في معرفة الجذور التاريخية لهذه الوضعية. يرى الجاحظ أن المرء مهما امتلك لسانين فإنه يجد في لسان واحد فقط. وربما هذا ما كان وراء موقفه من ترجمة الشعر، بل حتى من ترجمة الفلسفة من اليونانية إلى العربية التي يجزم بفشلها وقصورها حين يقول في «كتاب الحيوان»: « إن الترجمان لا يؤدي أبداً ما قال الحكيم، على خصائص معانيه، وحقائق مذاهبه (...) وكيف يقدر على أدائها وتسليم معانيها، والإخبار عنها على حقها وصدقها، إلا أن يكون في العلم بمعانيها، واستعمال تصاريف ألفاظها، وتأويلات مخارجها، مثل مؤلف الكتاب وواضعه؟». الترجمة، إذاً وفق الجاحظ، ناقصة لأن المترجم دون علم الفيلسوف عمقاً. فالمترجم مهما كان دقيقاً ومجيداً للألسن، لا يمكنه أن يلحق بالمؤلف. وذلك واضح في حكم الجاحظ الجارح: «متى كان ابن المقفع مثل أرسطوطاليس؟ ومتى كان خالد مثل أفلاطون؟». وهذه الأحكام أثارت حيرة عبدالفتاح كيليطو، الذي استغرب كيف يصدر عن الجاحظ مثل هذا الحكم وهولا يعرف اليونانية، ومن ثم ليس في استطاعته القيام بمقارنات بين النص الأصل والترجمة. أما خالد الذي يحتقره الجاحظ فهو خالد بن يزيد بن معاوية، وهو خطيب وشاعر فصيح ترجم كتب النجوم والطب والكيمياء. لقد ورد اسم عبد الكبير الشرقاوي بخط أصغر، وانتقل فريد الزاهي إلى أسفل الصفحة الداخلية من رواية الخطيبي، وتم ستر اسم عبد الكريم الجويطي بين تاريخ النشر ورقم الإيداع القانوني في رواية أوريد، لأن الشرقاوي ليس بمستوى علم بيير شارتييه، والزاهي لا يمكن أن يصعد إلى مرتبة الخطيبي، ومتى كان الجويطي مثل أوريد، المناضل المنافح عن اللسان الأمازيغي ومؤرخ المملكة السابق؟ إنها موازنات تثير الاستغراب، لكنها موجودة مثل خنجر في القلب.