كان ويليام هوغارت واحداً من أكبر الرسامين الإنكليز خلال النصف الأول من القرن الثامن عشر، وتحديداً حتى وفاته في عام 1764. غير أن هذا الفنان تميّز بمحفوراته واسكتشاته ورسومه الأخرى التي كانت أقرب إلى أن تكون كاريكاتورية، منها بلوحاته الزيتية. والحال أن هوغارت نفسه ترك الكثير من الكراسات التي تحمل ملاحظات وفقرات بدأ يدوّنها منذ كان في صباه المبكر. واللافت في تلك الكراسات أن هوغارت بدأ حياته وهو يدون الملاحظات على شكل رسوم واسكتشات. ومن هنا لن يكون غريباً أن يعتبر هوغارت لاحقاً، واحداً من مؤرخي الحياة اليومية في بريطانيا ذلك العصر، من طريق الرسوم. تواكب هذا بالطبع، مع تقدّم في الطباعة جعل الصحافة تقبل على هذا الصنف من الرسوم لتنشرها ضمن مبدأ كان يقول إن رسمة واحدة ربما تكون ألف مرة أكثر فصاحة من ألف كلمة. من هنا ترك لنا هوغارت، إلى لوحاته الكثيرة التي تجعله يحتل مكانة متقدمة جداً بين رسامي بريطانيا في ذلك الحين، مئات الرسوم التي يمكن المرور على بعضها مرور الكرام باعتباره وليد ساعته وخدم كرسالة اجتماعية ما، ولكن يمكن في الوقت نفسه التوقف عند بعضها الآخر باعتباره أعمالاً فنية ذات حياة ومغزى ناهيك بسماتها الفنية الواضحة. ومن هذا النوع الأخير رباعية لهوغارت توجد الآن معروضة في إحدى قاعات متحف «آرميتاج» في سان بطرسبورغ (لينينغراد سابقاً). وهذه الرباعية تعتبر في هذا المتحف من أبرز مقتنياته الإنكليزية. تحمل هذه الرباعية عنواناً عاماً هو «أوقات اليوم الأربعة»، حيث إن كل لوحة تحمل عنواناً وموضوعاً يرتبط بساعة من ساعات اليوم: الصباح، الظهيرة، المساء والليل. والمجموعة ككل رسمها هوغارت في عام 1736 بطلب من جوناثان تايرز، الذي أراد من اللوحات أن تزين واحداً من أجنحة حدائق فوكسهول. واللافت هنا أن هوغارت بنفسه أعلن عن اكتتاب عام للإنفاق على اللوحات، في إعلان نشره في صحيفة «لندن ديلي نيوز». وكان الإعلان يتحدث عن رغبة هوغارت في إنجاز خمس محفورات على النحاس، أربع منها تتناول الأوقات التي أشرنا إليها، فيما تمثل اللوحة الخامسة مجموعة من الممثلات وهن يرتدين ثيابهن ويتبرجن استعداداً لمسرحية سيشاركن فيها. ولئن كانت هذه اللوحة في الأصل جزءاً من المجموعة، فإن الباحثين يتجاهلونها عادة للتركيز على اللوحات الأربع الأخرى. واللافت أيضاً أن هوغارت، حين انصرف إلى تنفيذ اللوحات آثر أن يطبعها بسمة كاريكاتورية، اتباعاً لطريقته في التعامل المتهكم مع المجتمع وشؤونه في ذلك الحين. اللوحة الأولى هي التي تمثل ساعات الصباح، في مشهد يرصد الحركة الصباحية في منطقة كوفنت غاردن التي كانت في لندن تلك الأيام، واحدة من أكثر المناطق حيوية وشعبية. وإلى يسار اللوحة يمكن الناظر أن يشاهد كنيسة سانت بول، التي كانت من أشهر الكنائس اللندنية في ذلك الحين بل ربما لا تزال كذلك حتى الآن وفقط انطلاقاً من مكانتها التاريخية ومن كونها الكنيسة التي تذكر أكثر من غيرها في الآداب الروائية التي تدور أحداثها في لندن، وذلك طبعاً على خطى تشارلز ديكنز ورواياته «اللندنية» الكبرى. ومن المعروف أن هذه الكنيسة احترقت ودمر جزء منها في عام 1795، أي بعد أكثر من نصف قرن من رسم هوغارت لوحاته، ثم أعيد بناؤها من جديد. أما في مواجهة الكنيسة فنرى مقهى «توم كينغ» الذي كان واسع الشهرة في ذلك الحين ومحل اجتماعات وسجالات أبرز المثقفين اللندنيين. أما المنزل الفخم الذي يتوسط خلفية اللوحة فإنه كان منزل الأدميرال إدوارد راسل. واللافت في هذه اللوحة هو أن هوغارت حرص على أن يضع في اللوحة، وسط تلك الأماكن ذات السمعة الكبيرة والأهمية الفائقة في التاريخ اللندني، شخصيات تعيش حياتها تجوالاً، وعناقاً واستدفاء ومرحاً واستعداداً لنهار عمل شاق، غير أن وضعها يتناقض تماماً مع الجو العام المحيط، بل ثمة تفاوت أيضاً بين أناقة السيدات في اللوحة، وبين الوضعية العامة للشخصيات التي توحي بالبؤس، لا سيما من خلال وجود عدد من المتسولين. صحيح أن هذا كله لا يضعنا وسط بؤسوية تذكرنا بلندن تشارلز ديكنز، ولكن ما في اللوحة يمهد لتلك البؤسوية المقبلة. لوحة الظهيرة، التالية، ترينا في الخلفية كنيسة سانت جيل إن ذي فيلد. ومع هذا فإن الباحث الإنكليزي بولسون، الذي كان من المختصين في طوبوغرافية لندن، كما في أعمال هوغارت، يفيدنا بأن هذه المنطقة كانت في ذلك الحين تقع وسط حي سوهو الشهير، وفي جانب من هذا الحي يقطنه عدد كبير من المنفيين والمهاجرين الفرنسيين، ما يبرر وجود كنيسة كاثوليكية في الجانب الأيمن عن اللوحة. ولعل هذا ما يفسر أيضاً بعض الحذلقة في حركة الشخصيات التي تبدو هنا لاإنكليزيتها واضحة. والمشهد هنا، في شكل عام، يبدو أكثر أناقة من مشهد الصباح وأقل بؤساً، بل إننا إذا صدقنا بعض النقاد والمحللين لربما سنجد أنفسنا منساقين معهم للقول إن المشهد في هذه اللوحة يبدو «فرنسياً» أكثر منه إنكليزياً بكثير. في المشهد الثالث لدينا حقبة أول المساء، حيث إن الشمس لم تغب تماماً بعد. والمشهد كله يبدو أقرب إلى أن يكون ريفياً، حتى وإن كان يدور في حديقة لندن نفسها... ذلك لأن المكان المصوّر هنا هو ضفة «نيو ريفر» أو «النهر الجديد» في منطقة شمال لندن. واللافت هنا خلوّ هذه اللوحة المسائية من أي كنيسة، بل إن المبنيين المصوّرين، يمين اللوحة ويسارها، هما: مبنى حانة، كانت شهيرة في لندن في ذلك الحين، ومبنى مسرح «سادلرز ويلز» الذي كانت تقدم فيه الأعمال المسرحية الهزلية. ولعل ما يلفت النظر هنا كون هذه اللوحة أقلّ اجتماعية واحتفالاً بالجمهور وتنوّعه من اللوحتين الأوليين. أما اللوحة الرابعة هنا فهي لوحة «الليل». وفيها مشهد لندني لشارع يقع غير بعيد من منطقة شارنغ كروس، وفي وسطه تمثال لتشارلز الأول ممتطياً صهوة حصانه. أما الشخص الذي نراه ثملاً في حاجة إلى من يسنده في سيره، أول اللوحة فهو عضو في محفل ماسوني، ولربما كان في حقيقته توماس دي فيل، الذي كان عمدة لبوستريت في ذلك الحين. ولقد عرف عن دي فيل هذا أنه كان فاسداً، لكنه كان دائم الشجب للسكر والسكارى، ما جعل جمهرة من الناس يضرمون النار في منزله. ولربما كان الحريق في أعلى اللوحة يشير إلى هذه الحادثة، ما يضفي على اللوحة طابعاً تهكمياً مشاكساً بكل وضوح. ولد ويليام هوغارت عام 1697 ورحل عن عالمنا في عام 1764... وهو واصل دراسة الرسم والحفر على النحاس، طوال صباه وحتى وقت متأخر في حقبة كان يكسب فيها عيشه من عمله على تزيين الكتب وحفر أغلفتها. غير أن هوغارت لم يرصد الحياة اللندنية لاحقاً في رسومه للصحف ومحفوراته النحاسية فقط، بل حتى في لوحاته الزيتية، لا سيما منها تلك التي كان اعتاد، خلال القسم الثاني من حياته، أن يرسمها للذته الشخصية مثل لوحة «بائع المحار» أو «خدم الرسام» أو «زواج على الموضة». ومع هذا حين رحل هوغارت كان يشعر بخيبة شديدة لأنه، وفق قوله «عجز عن أن يغير في رسومه، تفاهة المجتمع». أما هذا المجتمع فإنه في المقابل لم يردّ للفنان الصاع صاعين، بل إنه احتضنه وأسبغ عليه آيات التكريم والتمجيد ناهيك بأنه - ولفترة طويلة من الزمن، وبفضل تقدم الطباعة في لندن ورخص تكاليفها - جعل من لوحاته الاجتماعية الزينة الأساسية التي تعلق على جدران البيوت... ما جعل هوغارت فنان الشعب الإنكليزي الأول... [email protected]