في البداية كان المشروع بسيطاً ومتواضعاً: كلّف الكاتب الناشئ تشارلز ديكنز الذي كان في ذلك الحين في الخامسة والعشرين من عمره، من دار النشر «تشابمان وهال»، وضع نصوص تترافق مع رسوم رياضية من المفترض أن يرسمها رسام الكاريكاتور المعروف سايمور، وتنشر عدداً بعد عدد في شكل شهري. وبالفعل قبل ديكنز المهمة وأقبل على التحضير لكتابة تلك النصوص، غير انه سرعان ما وجد أن في إمكانه أن ينطلق من ذلك المشروع البدائي لكتابة عمل أكثر جدية وإقناعاً. وهكذا اقترح على الناشرين أن يحوّل الموضوع إلى سلسلة من النصوص الاجتماعية التي تروي مغامرات أعضاء في ناد آخر، غير رياضي هذه المرة، أطلق عليه اسم «نادي بيكويك» تيمّناً باسم الشخصية الرئيسة التي اختارها لرئاسة النادي، ولتزعّم سلسلة المغامرات في الوقت نفسه. قبل الناشران الفكرة، وراح ديكنز يكتب. لكن المشروع ظل متأرجحاً طوال خمسة أشهر، إذ لم يقبل عليه جمهور القراء في شكل جدي ولافت. ولكن فجأة منذ الشهر الخامس تبدّل كل شيء: تغيّر الرسام، ودخلت المغامرات شخصية جديدة هي شخصية سام ويلر الذي صار خادماً لبيكويك يرافقه في مغامراته. ولكن أهم من هذا، دخلت السياسة الحلبة من خلال مغامرة تدور على خلفية انتخابات بلدية، وتعرّف بيكويك إلى رئيس تحرير صحيفة سياسية... وبدأت تلك السلسلة من المغامرات تتخذ طعماً جديداً، لتكتمل بعد ذلك بخمسة عشر شهراً في النص الضخم الشامل الذي حمل اسم «أوراق السيد بيكويك»، والذي بعد صدوره في حلقات شهرية، صدر في كتاب محققاً، في لندن ذلك الحين، نجاحاً قورن بنجاح «دون كيشوت». بل إن نقاط التشابه بين العملين لم تكن قليلة، في الشكل وفي المضمون.واليوم إذ يحتفل العالم بالذكرى المئوية الثانية لولادة تشارلز ديكنز، ها هو أدب هذا الإنكليزي الكبير متراوحاً بين هزلية «أوراق السيد بيكويك» وبؤسوية الأعمال الرئيسية لهذا الكاتب وحسّ المغامرة الطاغي على أعمال كثيرة له، ها هو يبدو معاصراً في شكل خلاق. وهي معاصرة لا شك أن الرواية التي نحن في صددها هنا، تعبّر عنها بأفضل ما يمكن. مهما يكن من أمر، وفي عودة منا إلى التلاقي بين «دون كيشوت» ورواية ديكنز هذه نجد كيف أن الشكل البيكاري، وشكل الحلقات المنفصلة - المتصلة، الذي اتخذته «أوراق السيد بيكويك» أتيا ليذكرا ب «دون كيشوت»، وكذلك كانت هناك العلاقة بين السيد بيكويك (دون كيشوت العصر الحديث في حينه) وبين خادمه. ثم هناك معركة السيد بيكويك في سبيل الأخلاق وضد رياء المجتمع، المعركة التي كانت في كل حلقة توصله إلى مأزق لا تخلصه منه سوى معجزة، لكنه يصر على مواصلة طريقه بعد ذلك. صحيح أن السيد بيكويك هو واحد من ستين شخصية يحفل بها هذا العمل الذي ترجم لاحقاً إلى عشرات اللغات، واعتبر - عن حق - إحياء حقيقياً لأدب المغامرات البيكاري، من دون أن يخلو من وعظ، غير أن السيد بيكويك شخص فريد من نوعه في الوقت نفسه. انه كهل طيّب دقيق الملاحظة أحياناً، لكنه لا يخلو من حمق في أحيان أخرى. مهمته الخفية إصلاح هذا العالم، أما مهمته العلنية فهي التجوال مع رفاق له كلهم متقدم في العمر مثله، لرصد أحوال الناس وتقديم تقاريرهم عن تلك الأحوال إلى النادي الذي أنشأه بيكويك بنفسه. وبيكويك ورفاقه (تراسي تابمان وأوغست سنودغراس وناثانييل ونكل) هم أناس غريبو الأطوار عنيدون... لكنهم أصحاب غفلة في الوقت نفسه. ومن هنا سرعان ما نراهم يقعون في حبائل أناس يعترضون طريقهم ويحاولون التعامل معهم بجدية وشرف أول الأمر، لكنهم سرعان ما ينتبهون إلى وضعهم فيحولّونهم إلى ضحايا. ومن هؤلاء، النصّاب اللعوب جينغل، الذي يذهب ويعود بين حلقة وأخرى، محاولاً مرة الإفادة من غفلة بيكويك ورفاقه، ومرات توريطهم في متاعب، بما فيها التسبب في مبارزات تخاض وزنازين سجون تفتح لهم، وأموال تسرق وفتيات يوقعن في الهوى، وما إلى ذلك. إن سلسلة المغامرات التي تشكل محور هذه الرواية، تتتالى من حلقة إلى أخرى، وغالبا ما تدور الأمور من وراء ظهر «فتياننا» الإصلاحيين الأربعة، فيما هم يواصلون طريقهم ومهمتهم النبيلة مؤمنين بأن الإنسان لا يمكنه إلا أن يكون طيباً في نهاية الأمر. والحقيقة أن هذا الإيمان «الأعمى» بفضيلة البشر، هو الذي جعل من السيد بيكويك ورفاقه، في بريطانيا الربع الثاني من القرن التاسع عشر، شخصيات شعبية يتابعها الناس ويتابعون مغامراتها بشغف وهم يمضون سهراتهم يتندرون بنوادرها ويحللون اتجاهاتها، تماماً كما يفعل الناس في أيامنا هذه بأبطال المسلسلات التلفزيونية. وهكذا كان في وسع الناشرين اللذين أقدما على الأمر بصفته مغامرة في البداية، أن ينظرا بكل سرور إلى مبيعات الأجزاء المتتالية وهي تصل إلى أربعين ألف نسخة بالنسبة إلى كل حلقة. وإذا كانت الحلقات كلها نالت إعجاب القراء، فإن ثمة حلقات كان يمكن التوقف عندها في شكل خاص، ومنها مثلاً تلك التي يزور فيها بيكويك ورفاقه روشستر حيث يلتقون للمرة الأولى بالنصّاب جينغل الذي يورّط، منذ ذلك الوقت المبكر، وينكل في مبارزة ينجو منها هذا في اللحظات الأخيرة. وهناك بعد ذلك زيارة المجموعة إلى عزبة دنفلي ديل التي يملكها النبيل الكريم مستر وارول... وهنا لا يمنع كرم هذا الشخص الطيب، جينغل من أن يحاول إغواء شقيقة المضيف ويحرضها على الهرب معه، ما يستدعي من الرباعي مطاردة الهاربين حتى إعادة الأمور إلى نصابها. وبعد ذلك تأتي الحلقة التي يلتقي فيها سام ويلر بالسيد بيكويك ويصبح خادماً له، وذلك مباشرة قبل الحلقة الانتقالية التي أشرنا إليها والتي أعطت العمل كله نكهته السياسية، إذ أن المجموعة تصل هكذا، مع الخادم الجديد إلى اجتماع انتخابي والى التعرف إلى رئيس التحرير، الصحافي، الذي سيقود توجه العمل في اتجاه انتقادي للأوضاع السياسية السائدة. غير أن اهتمام السيد بيكويك وصحبه بالسياسة بذلك الشكل المباغت، لن يحميهما في حلقة تالية من العودة إلى الالتقاء بجينغل الذي صار له الآن خادم، ويتمكن هو وخادمه من خداع السيد بيكويك وخادمه ويلر، في واحدة من أجمل وأطرف حلقات السلسلة. وفي حلقة تالية حين يكون السيد بيكويك مطارداً جينغل، يحدث له أن يدخل، خطأ، غرفة نوم سيدة في مقتبل العمر، ما يثير حنق حبيبها، ويتسبب لبيكويك في مصاعب إضافية، توصله هذه المرة إلى المحكمة، حيث لن يمكنه الخلاص إلا بفضل مناورات جينغل للإيقاع بابنة القاضي نفسه... ولكن إذا كان السيد بيكويك أفلت هذه المرة من العقاب، فإنه لن يفلت منه في مرة مقبلة ليجد نفسه في السجن... جنباً إلى جنب النصاب جينغل... وهكذا على هذا النسق تسير هذه المغامرات، التي لا ريب أنها أمّنت في ذلك الحين لكاتبها شهرة كبيرة فحواها، ليس فقط كونه كاتب روايات مغامرات، أو رساماً ماهراً للنفوس البشرية، بل أيضاً وبخاصة كونه راصداً حقيقياً لأحوال المجتمع والعلاقات فيه، وسط أزمان التغيّر الكبرى: التغيّر الذي إذ كان يطاول الأوضاع الاقتصادية، كان لا بد له من أن ينعكس على أخلاق الناس وتصرفاتهم. ولا ريب في أن نظرة ديكنز، الساخرة والعطوف في الوقت نفسه، إزاء السيد بيكويك ورفاقه، تقول لنا الكثير حول تلك التغيّرات ونظرة الإبداع إليها... بخاصة إذا أدركنا أن ثمة في العمل ككل ما يوحي إلينا بأن ديكنز يرسم من خلال بيكويك ورفاقه، أخلاقيات العالم القديم، فيما يجعل من النصاب جينغل، بكل أسف، صورة لأخلاقيات العالم الجديد. قلنا إن تشارلز ديكنز (1812 - 1870)، الكاتب الإنكليزي الاجتماعي الكبير، كان حين شرع يكتب «السيد بيكويك»، في الخامسة والعشرين من عمره. ولئن كانت هذه «الرواية» أمنت له مجداً باكراً، فإنه كان عليه أن ينتظر نصف عقد ونيف قبل أن يصبح واحداً من كبار كتّاب زمنه، في أعمال تلاحقت وحملت عناوين حققت شهرة كبيرة مثل: «حكاية مدينتين» و «أوليفر تويست» و «دافيد كوبرفيلد» و «آمال كبيرة»، وصولاً إلى روايته الأخيرة «سر أدفن درود». [email protected]