كل شيء بدأ هذا اليوم، حين جلست أمي على كنبة الصالون في روب قطيفة قديم، تلمع في عينيها تلك الغلالة الرقيقة من الدمع، فتمنحها نظرة منكسرة ومتكبرة في آن، لأرملة وحيدة في حاجة للمساعدة، لكنها مستعدة في التو لرفضها بترفع، وأحياناً بضراوة، إذا لم تأتِ بطريقة تليق بها. أمامها جلس خالي بأناقته الباريسية -قضى عشر سنوات في السوربون لينال الدكتوراه- يشربان الشاي بعد الغداء الذي أعدته بعناية. اليوم جمعة، وفي الجمعة الأولى من كل شهر يزورنا خالي، تعد له الأكلات التي يحبها ولا تستطيع زوجته الفرنسية إعدادها: «أرز بالخلطة» و «كبابي» و «حمام محشي»، وجبات تذكره بطفولتهما. يأتي ليطمئن علينا، يتحدث في كل شيء: السياسة التي يمارسها، القضايا التي يترافع فيها، أخبار زوجته وأولاده، كل شيء ما عدا أحوالنا. اليوم كان آخر جمعة في كانون الأول (ديسمبر)، قبل أذان المغرب بقليل، ذلك الوقت الرمادي حين يبدو الضوء شاحباً وعلى وشك الانسحاب، حين جلستُ صامتة أتابع حديثه الصاخب وردود أمي المقتضبة، أتوه للحظات، أتأمل شيئاً ما لا أتذكره، نقوش السجادة النبيتي أو إطار صورة زفاف أمي المعلقة على الحائط، حتى فوجئت بأمي تصرخ صرخات مؤلمة متتالية وتلطم وجهها. بدت مختلفة عن الأرملة الحزينة ذات الدمعة المعلقة، فأرتبكتُ ولم أفهم ما حدث، فيما كان المشهد ثقيلاً وبطيئاً، وأمي مستمرة في الصراخ بينما يحاول خالي تهدئتها فتزداد شراسة، حتى خرج أخي من حجرته صائحاً: «إيه اللي حصل». الرمادي المائل للزرقة جثم على المكان فاختنقتُ، لا أمل في الهروب، واليوم جمعة، لا دراسة ولا أصدقاء، تسيطر عليّ فكرة واحدة، أن أتحرك بسرعة، أغلق الستائر وأضيء النجفة، فأقطع الطريق على ذلك الضوء المفارق الذي يعذبني، إلا أنني كنت أخشى رد فعل أمي لتلك الحركة المفاجئة، فصار المشهد كله صامتاً، وخالي منكمشاً في مقعده، وأمي تصرخ بلا صوت ووجهها أحمر، وأخي يحاول تهدئتها. أفقت على خبطات عنيفة على باب الشقة، وصوت نسائي مبحوح: «إيه اللي حصل يا جماعة»، «إنتو كويسين». فتح أخي الباب بهدوء مفتعل وطمأن الجارة الفضولية التي وقفت أمام الباب بروب مفتوح وقدمين حافيتين، وهو يردد الجملة نفسها بثقة زائفة: «شكراً.. شكراً.. إحنا كويسين» ويكاد أن يغلق الباب في وجهها. أفاقت أمي تدريجياً، ونظرت إلينا بذهول كمن يفيق من غيبوبة، وانسحب خالي بهدوء من دون كلمة وداع، وأغلق الباب خلفه بحذر. توقفتُ عن المتابعة، وركزتُ في نقوش الستارة الأورجانزا، فبدت صغيرة ورقيقة لكنها هشة وقابلة للانسحاق. توحدتُ معها في عالم بعيد ناء، يتحول فيه الضوء الرمادي البارد إلى صباح دافئ وضاء، حتى انتبهتُ على نظرة أمي المنطفئة ووجهها المتقلص من الألم، وأخي يسحب الإبرة من ذراعها. تفحصت المشهد للمرة الأخيرة قبل أن أغيب في نقوش الستارة البارزة، كنا وحدنا أنا وأخي وأمي، وفي الخارج ظلمة جاثمة على القلب كالموت.