في القرون الوسطى، يوم لم يكن هناك بلد اسمه الولاياتالمتحدة الأميركية، كما أنه لم تكن القارة الأميركية نفسها قد اكتشفت بعد. في ذلك الوقت، الغائر في الزمن، ترجم القرآن الكريم الى اللغات اللاتينية في إسبانيا للرد على الإسلام حينذاك، الداعي الى الترجمة كان بطرس الجليل Pierre le venerable رئيس دير كلوني الفرنسي، الذي عاش في الفترة «1092 - 1156» ، وهو قام بجولة بين الأعوام « 1143 - 1141» على الحدود الفرنسية مع إسبانيا وتعرف على المسلمين، وخرج بنظرية، مفادها أن محاربة المسلمين لا يمكن لها أن تتم بالسيف وحده وإنما بالثقافة. وهذا جعله يسعى الى ترجمة القرآن الكريم من العربية التي أنزل بها، الى اللغة اللاتينية، وترجم القرآن ليس محبة فيه، ولا اعترافاً منهم بكونه كتاباً منزلاً على سيدنا ورسولنا محمد «صلى الله عليه وسلم». بل وفقط من أجل فهم الكتاب الذي يعتبر المصدر الوحيدة لعقيدة الرجال الفاتحين في ذلك الزمان، بحسب ما يقول المفكر الفرنسي ريجيس بلاشير في كتابه «مدخل الى القرآن»، ويذكر بلاشير أن رئيس دير كلوني حصل على مساعدة أسقف طليطلة المعروف رايموند دو توليدي Raymond de Tolede . الأمر الذي مكنه، من تشكيل لجنة لترجمة القرآن كان من أبرز أعضائها شخص يدعى بيير الطليطلي الذي كان يجيد اللغة العربية. ويقول بلاشير ان الترجمة التي أنجزتها هذه اللجنة كانت ناقصة تعتمد التلخيص، وتمت من دون الإضاءة على التفاصيل والكيفيات والمعاني، والتحولات التي حصلت بعد الترجمة. رغم ذلك حظيت هذه الترجمة بشعبية واسعة، وتولى أحد رجال النزعة الإنسانية من اللاهوتيين في سويسرا سنة 1543 طباعتها، كما ظهرت طبعة ثانية لأحد رجال هذه النزعة في العام 1547 ، ونقلت هذه الترجمة الى اللغة الألمانية سنة 1616 ، ثم الى الهولندية سنة 1641 ،وفي السنة نفسها قام الفرنسي أندره دي ريي Andre de Ryer الذي عاش في مصر عدة سنوات كقنصل لفرنسا تعلم خلالها اللغة العربية، قام بنقل هذه الترجمة الى الفرنسية بأسلوب مبسط تحت عنوان قرآن محمد «Alcoran de Mohamad ». واستقبلت هذه الترجمة بشعبية واسعة حيث انها ساعدت الناس البسطاء على فهم الكتاب والتعرف على الإسلام من خلال القرآن الكريم. وقد صدرت من هذه الترجمة خمس طبعات في خمس سنوات، ثم طبعت الترجمة الى الإنكليزية سنة 1688 ، والى الهولندية مرة ثانية سنة 1698 . رغم ذلك لم يكن القرآن الكريم قد ترجم ترجمة علمية وافية كما هي الحال اليوم. يهمني القول، بأن القرآن الكريم عرف في تلك البدايات ككتاب يقرأ من قبل العرب الفاتحين أو، «المحتلين» بلغة سكان تلك البلاد التي وصل إليها الإسلام مكملاً ما بدأه في عملية التغيير الروحي والاجتماعي في الجزيرة العربية، وهدم التقاليد المتخلفة والاعتراف بالآخر والإيمان بوجوده والتحاور معه، بل وأكثر من ذلك التجاور معه، والذي كان يصل في كثير من الأحيان الى وجود أحياء مختلطة حتى مع اليهود الذين عذبوا نبي الإسلام في بداية مشوار النبوة والتبشير بالعقيدة الجديدة في القرن السابع الميلادي في قلب الجزيرة العربية. المشكلة التي تأتت من خلال ترجمة القرآن الكريم، أن الكثيرين من الشعوب الأوروبية التي وصلتها نسخ منه كان أفرادها، بعد أن يقرأوه يغيرون دينهم المسيحي الى الإسلام، لأن قراءة هذا الكتاب المنزل، الحكيم، أنارت عقولهم وبصائرهم، وفتحت أعينهم على ما كان غائباً في حياتهم اليومية وسلكوهم الاجتماعي. ومع ذلك، لم يرتدع أصحاب الأفكار السيئة، عن التشويه بصورة الإسلام منذ تلك الايام وحتى يومنا هذا. على أساس أن هذا الدين هو العدو المباشر لهم. الذي بدل أن يبقى في مكانه الجغرافي، جاء إليهم وحل بينهم وبالتالي هم مضطرون لمحاربته، بكافة الوسائل المتاحة بين أيديهم. ولكن هذه الحرب لم توقف النهضة، التي كان الإسلام قد بدأها في الشطر الجنوبي من القارة الأوروبية، والتي ما تزال ماثلة للعيان حتى هذا الوقت، وهي أصبحت، بعد كل هذه القرون، صروحاً ثقافية وإنسانية، تعبر عن الحقيقة، التي ذهب الإسلام الى هناك من أجلها. ويفخر الإسبان، اليوم، بهذه الصروح ويعتبرون أنفسهم مدينين لهذا الإسلام في إحداث هذه النهضة في بلادهم. ولكن العالم قد تغير كثيراً قياساً بتلك الفترة، والمسلمين اليوم، موجودون في كافة أصقاع وبلاد الأرض، وهم جزء كبير جداً من نسيج المجتمعات الغربية والأوروبية على وجه التحديد، وبغض النظر عن المعاناة الاجتماعية التي برزت في السنوات العشر الأخيرة في أوروبا، لناحية التمييز الاجتماعي بين المسلمين وغيرهم، ودون النظر أيضاً الى أصحاب النظرة العنصرية اليمينية المتفشية في أوروبا، والتي يمارس أصحابها التمييز على أساس الدين ضد الجاليات الإسلامية، ومسألة الحجاب التي ظهرت في فرنسا، مع أنها لم تستثن الرموز الدينية للأديان الأخرى المعترف بها في فرنسا، مع كل هذا، فإن المسلمين يتواجدون في هذه البلاد، وينعمون بخيراتها وكل ما توفره لهم الإقامة بها. ومع ذلك فإن ما اصطلح على تسميته «الإسلام السياسي» لم يوفر هذه البلاد من الدعوات الى كرهها وحاربها وقتل شعوبها، مع أن النبي محمد «ص» أنزل الرحمة بجيرانه من اليهود الذين كانوا يسيئون إليه وبقوا يسيئون، ويحيكون المؤامرات ضده. فالإسلام دين الرحمة، وقد تجلت هذه الرحمة أكثر ما تجلت في سلوك النبي عليه الصلاة والسلام. أما الإسلام اليوم، أقصد هذه الفئة الضالة والخارجة عن تعاليم الإسلام القويم. فقد، أساءت الى الإسلام جاعلة إياه، في أعين الآخرين، عدواً يتربص بهم كل الوقت. وهذا ربما ما دفع صموئيل هنتينغتون قبل نيف وعقد من الزمن، أن يكتب في مقالة له نشرتها الواشنطن بوست «إن الإسلام دوماً، وطوال تاريخه، يعتبر نفسه في حالة حرب. فهو حتى لو كان في مرحلة تاريخية هادئة يخترع أعداء له ليقيم الحرب ضدهم ». وأجزم أن هذا الكلام لا ينطبق على الإسلام، الذي كانت دعوته وما تزال إحلال السلم والطمأنينة بين شعوب الأرض كافة، وإحترام الإنسان أينما كان وأنى حل. ومن المهم هنا، ذكر الجهود التي تبذل من قبل خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في هذا الشأن، والخطاب المعتدل جداً، والمتميز جداً، في طريقة التخاطب مع الآخر الذي يتعامل بحذر مع الإسلام والمسلمين. والحق، أن الإفطار الرمضاني، الذي أقامه رئيس الولاياتالمتحدة الأميركية جورج دبليو بوش لسفراء الدول الإسلامية في البيت الأبيض، وتلاوة آيات من الذكر الحكيم في قلب هذا البيت، ووضع نسخة من القرآن الكريم العربي وليس المترجم في مكتبة البيت الأبيض، خطة إيجابية خاصة في البيت الأبيض، الذي يعتبر ومنذ سنوات عدة، بيت العالم السياسي، وهو تصرف من شأنه أن يزيح الكرب، وحالة الحذر من نفوس الكثيرين من أبناء الشعب الأميركي، والمجتمعات الغربية من الذين باتوا يعتبرون، بعد أحداث سبتمبر 2001 أن الإسلام صنو الخطر. فوضع هذه النسخة في مكتبة البيت الأبيض، له أكثر من دلالة سياسية، والعديد من الدلالات الثقافية ذات المغزى التاريخي والإنساني. وترد، من الناحية الثقافية، أول ما ترد، على دعوات مفكر الخصومة بين الحضارات والأديان البروفيسور هنتينغتون، الذي يعتبر من أشد خصوم الإسلام الثقافي في العالم. الى زميله في الفكر البروفيسور الياباني فوكوياما الذي بشر بنهاية التاريخ، معتقداً أنه يمكن للحضارات بتاريخها العتيد أن تمحى بنظرية ناقصة أو بكبسة زر واحدة، أو من خلال تصرفات بعض المارقين في تاريخها المعاصر. فالخبر الذي وزعته «واس» آتيا من واشنطن العاصمة، ونقلته «الرياض» فاردة له المساحة اللازمة، يفيد على أكثر من صعيد، وعلينا الاهتمام به، أكثر من الاهتمام بأنفسنا، إذا كنا نريد حقاً، أن يكون عالم اليوم عالماً مبنياً على عقيدة الانفتاح على الآخر التي كان الإسلام قد بدأها قبل أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمن. وإذا كنا نريد حقاً أن نكون جزءا من العالم، ونكون فاعلين بقدر الفعالية التي تبديها شعوب العالم الآخر. فلكي نكون فاعلين يتحتم علينا أن نكون معتدلين لأن العمل لا يقبل ولا يمكن له أن ينجح إذا اعتمد على التطرف. ما هو كثير الدلالة في حفل الإفطار، ليس فقط، التلاوة، ووضع نسخة المصحف الشريف في مكتبة البيت الأبيض. إنما كان الخطاب الذي تلاه صاحب الدعوة نفسه، فالرئيس بوش، وبعد الترحيب بضيوفه، أشار صراحة خلال تهنئته للمسلمين في العالم أن «هذا الشهر الذي نزل فيه القرآن الكريم على نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم وأهمية هذا الشهر لدى أكثر من بليون مسلم». كما أكد بوش على أن «الأميركيين على تعدد خلفياتهم يسعون الى أن يعلموا أكثر عن تراث الإسلام الغني» وأنه، هو، قد «شجع الكثير من الأسر الأميركية على السفر وزيارة الأسر المسلمة، وكذلك تشجيعه للشباب الأميركي» الحالي «دراسة اللغات وتقاليد دول الشرق الأوسط» وشكر بوش «الشعوب الإسلامية التي انضمت الى تحالفنا في الحرب ضد الإرهاب بما في ذلك الشعوب التي كانت هي نفسها ضحية للإرهاب» وهذه الجملة اعتراف من رئيس الولاياتالمتحدة الأميركية الى المسلمين الذين بالفعل كانوا أكبر ضحايا التطرف الإرهابي القميء. على الأرجح، فإن الفترة الفاصلة بين الترجمة الأولى للقرآن الكريم في القرون الوسطى، والمراحل التي تعدتها، وخطاب الرئيس الأميركي بوش، فترة طويلة، وطويلة جداً. ولكنها مع ذلك تؤشر الى أن المسار الطبيعي الذي على الثقافات سلوكه، هو مسار قد يكون في كثير من الأحيان، كما حصل مع الإسلام، مساراً عسيراً مملوءاً بالأشواك، كما حصل مع النبي محمد « صلى الله عليه وسلم» حتى اكتمال الدعوة وترسيخ الفكر الإسلامي في البدايات. ولكن هذا المسار له ما يبرره، فالإسلام الذي خرج من قلب الصحراء العربية الى العالم، ونشر القيم الروحية والاجتماعية الصادقة لا بد له من النجاح في نهاية المطاف. والذين يحصدون الشهد هم الأشخاص الذين يتحملون لسعات النحل أكبر قدر ممكن من الوقت.