ما هي المسألة الأكثر إلحاحاً على أجندة «اليوم العالمي لمناهضة الرقابة على الإنترنت»Word Day Against Cyber - Censoship في عام 2012؟ الأرجح أنها ليست الأشياء المألوفة، مثل «السور العظيم» الذي رفعه الحزب الشيوعي الصيني في وجه حرية الإنترنت، ولا ممارسات الرقابة الصارمة في إيران أو غيرها من الدول. باتت هذه الممارسات القمعية «مألوفة» بالنسبة إلى المدافعين عن حرية الإنترنت. والمسألة الأكثر سخونة تأتي من البلد الذي ابتكر شبكة الإنترنت، ونشرها في أصقاع الأرض: الولاياتالمتحدة الأميركية. ففي مطلع العام الحالي، شهدت الولاياتالمتحدة حرباً رقمية واسعة، طغت أخبارها لبعض الوقت، على تحرّكات احتجاجية أبعد غوراً، مثل حركة «احتلّوا وول ستريت» التي باتت جزءاً مهماً في المشهد السياسي الأميركي. تركّزت هذه الحرب على قانونين سعت مجموعة من الشركات العملاقة، خصوصاً تلك التي تعمل في الموسيقى والسينما والترفيه، إلى فرضهما على حاضر الشبكة العنكبوتية ومستقبلها. حمل القانون الأول اسم «بروتكت آي بي آكت» Protect IP Act (المعنى هو «حماية الملكية الفكرية»)، واختصاراً PIPA «بيبا»، لكنه يحمل اسماً أطول معناه «قانون حماية التهديدات الفعلية عبر الإنترنت للابتكار الاقتصادي، وسرقة الملكية الفكرية» Preventing Real Online Threats to Economic Creativity & Theft of Intellectual Property Act. وامتلك القانون الثاني اسماً أصغر قليلاً هو «ستوب أون لاين بايرسي آكت» Stop On Line Piracy Act، ومعناه حرفياً «قانون وقف القرصنة عبر الإنترنت». وجرت الإشارة إليه باسم مختصر هو «سوبا» SOPA. يد عملاقة لخنق ال «ويب» في قول مجمل، يرى المتحمسون لقانوني وقف القرصنة على الإنترنت إلى وضع حدّ لمجموعة من المواقع الخارجية التي تستخدم مواد تحميها بعض قوانين ملكية حقوق النشر. ويكمن التحدي في وجود قانون الألفية للملكية الرقمية الذي أرسى توازناً بين التكنولوجيا الرقمية والإنترنت والمحتويات، من جهة، وكثير من صُنّاع المحتوى مثل هوليوود وشركات التسجيل الموسيقي ودور النشر وغيرها. ثمة أكثر من رأي في خصوص هذا الأمر، لأن ناشطي حرية المعلومات على الإنترنت يرون أن هذا «التوازن» يميل بشدّة لمصلحة الشركات. فبمقتضى هذا التوازن، يفرض على أي موقع شبكي التخلي عن أي محتوى موجود على الشبكة، في حال أدرك أنه ما زال محمياً بقوانين الملكية الفكرية. المفارقة فعلياً، أن هذه القوانين عينها موضع خلاف عميم أميركياً. ومع ذلك، ما زال هذا «التوازن» يرسم صورة الأمر الواقع في الولاياتالمتحدة. ماذا عن المواقع الرقمية التي تعمل خارج أراضي تلك البلاد؟ لا يطاول قانون الألفية للملكية الرقمية هذه المواقع، ولكن الطابع العالمي للإنترنت يجعل المواد التي تحتويها هذ المواقع متاحة أمام الجمهور عالمياً، ومن ضمنه مستعملو الإنترنت في أميركا. يكمن الوجه الآخر لهذه المفارقة في واقع أن الشركات العملاقة الأميركية تعمل عالمياً، بمعنى أن أفعالها، حتى لو كانت في النطاق الضيّق للعمل الداخلي للشركة، تولّد آثاراً عالمية، لا يستشار في شأنها أي شخص أو مؤسسة أو دولة! في هذا السياق، ظهر في أوساط الشركات الأميركية العملاقة لإنتاج المحتوى، من رأى ضرورة مد يد هذه الشركات كي تطاول «الخارج»، بمعنى وضع قانون أميركي (في الولادة والمصلحة)، لكنه يعمل عالمياً، مع عدم استشارة أي جهة على الأرض قاطبة! ضمن هذا السياق، ظهر قانونا «سوبا» و «بيبا». ودفعت بهما مجموعات ضغط تعمل لمصلحة الشركات العملاقة، كي ينظر بهما في الكونغرس. وفي سياق ترويجهما، قيل إن صُنّاع المحتوى في أميركا لا يستطيعون النيل من مواقع لا تعمل في الولاياتالمتحدة، لأنها تابعة لنُظُم قضائية لا يؤثر القانون الأميركي فيها. واستطراداً، وعندما لا تستطيع شركات المحتوى الأميركي، الوصول مباشرةً إلى الأشخاص الذين لا يشملهم قانون الألفية للملكية الفكرية، يجب إلغاء هذه المواقع، خصوصاً أن الخوادم الأساسية التي تتحكم بحركة الإنترنت مستقرة في أميركا، وتديرها جهة أميركية (هي «أيكان» ICANN) التي تملك أيضاً سلطة إعطاء أسماء النطاق العليا على الإنترنت. لذا، جرى صوغ قانوني «سوبا» و «بيبا» كي يضمنا امتداد اليد العملاقة للشركات الأميركية، إلى أرجاء الأرض كافة. قمع المواقع الاجتماعية في نفسٍ مُشابِه، يطالب قانونا «سوبا» و «بيبا» من الكونغرس بوضع قيود على عمل مواقع الشبكات الاجتماعية الرقمية، ومحركات البحث، ومزودي خدمة الإنترنت، ومزودي أسماء النطاقات، ونُظُم معالجة المدفوعات، ومؤسسات الإعلانات الرقمية وغيرها. وبقول آخر، طلبوا من الكونغرس جعل هذه الجهات مسؤولة في شكل أساسي عن ضبط المستخدمين، وتالياً منعهم من رؤية أي محتوى لا ينصاع لقوانين المُلكية الفكرية في أميركا. من المستطاع إعطاء مثال على مدى عدم توازن هذا الأمر. هل من المنطقي تحميل شركة هاتف مسؤولية عن السلوك غير القانوني للأشخاص الذين يستخدمون شبكة الهاتف الخاصة بها من أجل ارتكاب الجرائم؟ ألا تعتبر معظم القوانين أن شركة الهاتف في هذه الحال لا تمثّل سوى أداة في وسيط إعلامي، وأنها ليست من ارتكب الجرائم؟ بديهي الاستنتاج أن إدانة شركة الهاتف، في هذه الحال، يمثّل عبئاً ثقيلاً وغير منطقي على تلك الشركة، إضافة إلى أنه يُخلّ بمنطق العدالة فعلياً، حتى لو حاول الاحتماء بمتراس مكافحة الجريمة. وبالطريقة نفسها، يلقي قانونا «سوبا» و «بيبا» بثقل هائل على خدمات كثيرة تستند إلى محتوى يضعه المستخدمون مثل «يوتيوب» و «فايسبوك»، إلى درجة أن الكثير من الخدمات فيهما لن تجد بداً من العمل على تقييد عمل جمهورها وحريته. ويمكن تصور مدى القلق حيال هذه المسؤولية الجديدة التي تلقى على كاهل «يوتيوب» و «فايسبوك»، في حال إقرار هذين القانونين. لذا، رأى معظم المحتجين على القانونين أنهما يتشددان في شأن الملكية الفكرية، إلى حدّ يعطل الابتكار. إذ يطلب القانونان ألا يجري تداول أي محتوى، من دون موافقة الجهة التي تملكه، كما يريان في ذلك أساساً لوقف ظاهرة «القرصنة الإلكترونية». وأشار المحتجون إلى أن هذه الصيغة الشديدة التعميم، التي لا تتضمن تمييزاً لأنواع التداول ولا لحدود الملكية، تضرّ بالإنترنت بقوة. وأوضحوا أن النصوص المتداولة على الإنترنت هي مترابطة (بفضل تقنية الإنترنت نفسها) ومتداخلة، ومتعددة الوسائط، ما يعني أنها بالضرورة تتضمن نسيجاً من مصادر شتى. ولأن نص القانونين فائق العمومية، فإنه شديد الشمول أيضاً. مثلاً، إذا أوردت صحيفة خبراً وضمّنته روابط إلكترونية مع مصادر، وهو أمر يجري على مدار الساعة، تستطيع جهات المصدر أن تقاضي الصحيفة. أكثر من ذلك، يفرض القانونان على أصحاب المواقع أن يوقفوا النصوص التي قد تتضمن مثل هذه التداخلات، تحت طائلة الملاحقة قضائياً. في منحى أكثر شدّة، يعطي القانونان للمدعي العام الأميركي الحق في ملاحقة المواقع التي قد تتضمن هذه التداخلات، سواء داخل أميركا أم خارجها، كما تعطيه الحق في إقفالها. ويكفي تذكّر أن أسماء النطاق العليا مثل «.كوم» و «.أورغ» و «.نت»، تُعطى من أميركا، تحديداً من هيئة «أيكان» التي تشرف على حركة الإنترنت كلها. ويعني ذلك أن المواقع التي تستخدم هذه النطاقات العالمية، تصبح عرضة للملاحقة قضائياً، لمجرد أن يظهر فيها نصٌ ما فيه إحالة إلكترونية أو رابط رقمي، على أحد المصادر، من دون الحصول على موافقة مسبقة من هذا المصدر. ومن الواضح أن إقرار هذين القانونين، بهذه الصيغة، يجعل العمل بالنصوص الإلكترونية، والوسائط الرقمية كلها، شبه متعذّر كلياً. إنهما أضخم ضربة وجّهها التشدّد في الملكية الفكرية، للابتكار والإبداع على الإنترنت! ضحية «سوبا» تستند شبكة الإنترنت وثقافتها أساساً على تفعيل الأفراد، وتقليص التفاوت بين الناس، وإيجاد فرص الابتكار أمام جميع الأفراد. أما في منطق قانوني «سوبا» و «بيبا»، فتُجبر الإنترنت على التحوّل إلى مساحة تسودها القيود. ومن الجليّ أن هاتين الفلسفتين تتعارضان فعلياً. وتكمن المشكلة في أن إنتاج المحتوى نما أصلاً في عصور كانت أكلاف الإنتاج والتوزيع مرتفعة تماماً. في تلك الحِقَب، جرى تقاسم حق الجمهور في الاطلاع على المعلومات في أي وقت، وكذلك الحال بالنسبة إلى الحق في نشر المعلومات في وسائل الإعلام المختلفة وبلوغ المواقع الجغرافية كلها. وبديهية الإشارة إلى أن هذه الحقوق مترابطة في شدّة. في المقابل، يعيش الجمهور حاضراً في عالم كلّ ما فيه متوافر على نطاق عالمي عبر الإنترنت. ولكن الشركات العملاقة ترى في هذا الأمر مصدراً لمعاناتها. وبدل التأقلم مع هذا الواقع، تحاول هذه الشركات تفادي توزيع المحتوى عبر هذه الشبكة، لأن ذلك ليس متطابقاً مع الطريقة التي جرت العادة عليها لترخيص هذا المحتوى مع مرور الوقت. ثمة من يعتقد أن الشركات ستضطر في نهاية المطاف إلى التأقلم مع الوضع الحاضر، لأن من غير المنطقي تجريم كل محبّ للمعرفة. إن الفرد الذي يسعى إلى الابتكار يتوق للحصول على المعلومات والتقنيات الأكثر جدّة، وضمن الحدّ الأدنى من التكاليف والقيود. الأرجح أن ثمة نقطة توازن، بين الشركات العملاقة من جهة، وجمهور الأفراد في الفضاء الافتراضي (خصوصاً المبتكرين والمحبين للمعرفة)، من جهة أخرى. هل يتوصّل الكونغرس إلى إيجاد هذا التوازن؟ لننتظر قليلاً.