من يسمع الاعمال الموسيقية لكلارا شومان وماريا موتسارت وناديا بولانجيه؟ الموسيقارة كلمة غير اعتيادية، لا أذكر أنني سمعتها يوماً أو قرأتها في مكان ما. ويعكس عدم استعمالها مقدار الإجحاف بحق المرأة. لأننا لو طالعنا المصادر لوجدنا أسماء المئات من المؤلِّفات الموسيقيات وهن عملن بمثابرة وصبر وجهد مضاعف لإثبات جدارتهن في مهنة يحتكرها الرجل بصورة مطلقة، وأثبت عدد منهن بالفعل حقهن في التواجد بين أعظم المؤلفين الموسيقيين الأوروبيين. رغم ذلك يجري التغاضي عن إنجازات الموسيقيات والتقليل من شأنهن ومن شأن أعمالهن، وإهمال هذه الأعمال إذ قلما كنا نسمعها في قاعات الموسيقى وفي التسجيلات في السابق. غير أن السنوات الأخيرة شهدت الميل إلى رد بعض الاعتبار للموسيقيات، عبر الاهتمام بأعمالهن ودراستها وتسجيلها. وهذه الظاهرة الجديدة ليست في معزل عن ظواهر اخرى مشابهة تطرقت إليها في كلمة سابقة نشرتها «الحياة». من هذه الظواهر إحياء أعمال مؤلفين مجهولين وتقديمها، إذ بدأ الموسيقيون في البحث عن النادر والمجهول من الأعمال الموسيقية وتقديمها وتسجيلها في ما يشبه بسباق شامل بعد أن بدأ الملل يتسرب إلى الجمهور النخبوي من متذوقي الموسيقى بسبب تكرار الأعمال نفسها على مدى عقود متواصلة من السنين. وتعزز هذا المنحى الجديد في خروج الموسيقى من قمقم قاعة الموسيقى وسجن الاسطوانة (ولاحقاً السي دي) إلى رحاب فضاء الانترنت ووسائل الاتصال المعاصرة. إنها ثورة الاتصالات التي جلبت «بعض» الديموقراطية إلى شرائح جديدة من المجتمعات في ما يتعلق بحرية الوصول إلى المعلومات، ومنها الوصول إلى الأعمال الموسيقية المختلفة. ويكفي أن ندخل الانترنت ونزور اليوتيوب لنتيقن استحالة تكوين تصور عن عدد وماهية الأعمال الموسيقية الموجودة في هذا الموقع وبمختلف أنواعها. الاستثناءات لبروز أسماء مؤلفات موسيقيات في تاريخ الموسيقى الأوروبية تتركز على حالات خاصة، كأن تكون المؤلفة راهبة قد برعت في الأداء الموسيقي، كعازفة أو مغنية، واشتهرت لاحقاً في التأليف الموسيقي. من بين أقدم المؤلفات هناك المؤلفة الأرمينية ساهادوخت من القرن الثامن الميلادي، والبيزنطية القديسة كاسيا التي ساهمت في تأليف تراتيل الطقس الكنسي البيزنطي (ليتورجيا) في القرن التاسع الميلادي، والألمانية القديسة هيلدَغارد من القرن الثاني عشر. لربما تكون الإيطالية إيزابلا ليوناردا (1620-1704) استثناء ضمن الاستثناء، إذ لم تكن مؤدية أو عازفة معروفة، بل كانت مؤلفة وضعت قرابة 200 عمل موسيقي منها أعمال دينية وتراتيل، وكذلك أعمال موسيقية خالصة مثل عدد من السوناتات الرائعة للكمان وغيره من الأدوات الموسيقية. كانت حالة الراهبات الموسيقيات هي ما يميز موسيقى العصور القديمة بالدرجة الاولى. أما الصنف الثاني من المؤلفات فهو السيدات النبيلات الارستقراطيات اللائي حصلن على أجود تعليم موسيقي ممكن وعلى يد أفضل الموسيقيين. من أشهر ممثلات هذه المجموعة أختا الملك فريدريك الثاني (الكبير) ملك بروسيا، اخته الكبرى الأميرة فلهلمينه التي تزوجت أمير براندنبورغ- بايرويت، واخته الصغرى الأميرة أنّا أماليا. وكان المؤلف سيلفيو ليوبولد فايس، أشهر عازف عود (لوت) في القرن الثامن عشر، أحد مدرسي الأميرة فلهلمينه. ألفت الأميرة مثلاً أوبرا احتفالاً بعيد ميلاد زوجها فريدريك، حاكم مقاطعة براندبرغ- بايرويت في ألمانيا. والملك فريديريك الكبير نفسه مؤلف موسيقي وعازف فلوت. عمل عنده أفضل موسيقيي عصره، بينهم العبقري كارل فيليب ايمانويل باخ، الابن الثاني ليوهان سباستيان باخ الذي زار الملك في سني حياته الأخيرة وألف له عملاً بعنوان تقدمة موسيقية. اشتهرت كذلك بنات أو زوجات الموسيقيين. من الموسيقيات اللائي نشأن في عوائل موسيقية نجد الفرنسية أليزابت جاكت دو لا غير (1664-1729) وهي من المؤلفات الموسيقيات الشهيرات في عصر الباروك. تحدرت من عائلة جاكت الموسيقية المعروفة، وكانت عازفة هاربسيكورد بارعة (كلافسان بالفرنسية وهو أداة سبقت البيانو) وقد عزفت أمام لويس الرابع عشر وهي في الخامسة من عمرها. لديها مجموعات من الأعمال الغنائية الدينية والدنيوية والسوناتات ومجموعات من أعمال الهاربسيكورد. ونجد كذلك أسماء معروفة مثل ماريا أنّا موتسارت، أخت موتسارت العظيم، ومؤلفة الأوبرات لوسيل غرِتري ابنة الموسيقار الفرنسي أندريه غرتري التي توفيت في الثامنة عشرة من العمر، أو صوفيا كورّي، التي تزوجت الموسيقي التشيخي دوسك، أو فانّي (1805-1847)، اخت فيلكس مندلسون. لا أستطيع المرور عند ذكر اسم فانّي مندلسون من دون أن أقول أنها موسيقارة لديها 466 عملاً موسيقياً، بينها قطع للبيانو منها اغنيات من دون كلمات، وثلاثيات. رغم دعمه لنشاطها الموسيقي، كان أخوها لا يؤيد نشرها أعمالها باسمها الصريح لأسباب تتعلق بالحذر من العقلية النمطية السائدة بخصوص المرأة في المجتمع. لهذا نشرت بعض الأعمال باسم أخيها (مثل مجموعتي الأغاني رقم 8 ورقم 9). تسبب هذا في موقف محرج لفيلكس مندلسون مع فكتوريا ملكة بريطانيا عند استقبالها له في قصر بكنغهام، عندما تبين أن أغنية الملكة المفضلة من بين أعمال مندلسون كانت من تأليف اخته، فانّي. فاضطر إلى البوح للملكة بأن العمل المقصود ليس من تأليفه. توفيت فانّي في الثانية والثلاثين من العمر، وحزن أخوها عليها كثيراً، فألف لذكراها أحد أجمل أعماله الرباعية الوترية «رقم 6 في فا الصغير»، وتوفي بعدها بستة أشهر فقط. ولعل كلارا فيك شومان (1819-1896) هي الأشهر بين المؤلفات الموسيقيات في القرن التاسع عشر، وهي عازفة بيانو بارعة، حتى أنها تعتبر من أهم العازفين في الفترة الرومانتيكية. أخذت كلارا فيك اسم شومان بعد زواجها بروبرت شومان أحد عباقرة الموسيقى، وكان لها دور كبير في تقديم أعمال زوجها ولاحقاً أعمال يوهانس برامز الذي أصبح صديق العائلة الحميم. مؤلفاتها أفضل من أعمال عشرات الموسيقيين الذين هم أكثر شهرة منها. من بين أعمالها الجميلة نجد كونشرتو البيانو «في لا الصغير» وأغانيها الرائعة. ولأهمية هذه المؤلفة العظيمة، طبعت ألمانيا الموحدة في التسعينات صورتها على عملتها الورقية 100 مارك، أكبر فئة في النقود الألمانية، قبل نبذ المارك والانتقال لاستعمال اليورو. يحزنني عندما أنظر إلى العملات الورقية لبعض بلداننا العربية، فلا أرى سوى صور الزعماء، ولا أرى صورة شعراء أو روائيين أو فنانين، ولا حتى علماء. كلما اقتربنا في الوقت من عصرنا الحالي، زاد احتمال بروز مؤلفات موسيقيات لم يكنّ راهبات أو أميرات أو زوجات وبنات موسيقيين، بل نساء عاديات نبغن في الموسيقى وحصلن على تعليم موسيقي ممتاز. وسبب هذا التحول هو التغير الكبير الذي طرأ على المجتمعات الغربية الأوروبية. فقد بدأت مفاهيم المساواة وقيم العلم ومبادئ الديموقراطية بالانتشار تدريجياً منذ الثورة الفرنسية، والثورة الصناعية التي تلتها، ولاحقاً الثورة العلمية - التقنية التي وصلت إلى ما نشهده اليوم. وكل هذه المراحل صاحبها بروز النزعة الانسانوية والأفكار التقدمية بمدارسها المختلفة، إضافة إلى تغليب العقل على الغيبيات وصعود العلمانية التي فصلت بين السياسة والدين، وأبعدت الكنيسة عن التدخل في شؤون الحكم والدولة. وما كان هذا الأمر ممكناً من دون نضالات سياسية شاقة وطويلة. من أهم نتائج هذا التحول هو التحسن الكبير في الموقف من المرأة، وتجاوز الكثير من العسف الذي سُلّط عليها لدهور. ذكرت في مكان آخر ما حصل مع المؤلفة الفرنسية لويز فارانك التي كانت تستلم اجوراً أقل بكثير من اجور زملائها المدرسين الذكور في كونسرفاتوار باريس لقاء نفس العمل. إلا أنها طالبت بأجرٍ مساوٍٍ لأجور المدرسين الرجال بعد تقديمها في سنة 1849 عملها الرائع نونيت لرباعي وتري وخمس أدوات هوائية رقم 38 في مي بيمول كبير، وبنجاح ساحق، وحصلت على ما أرادت. لم يكن تنفيذ طلبها ممكناً لولا حصول التغيرات التي ذكرتها قبل قليل. عندما تقترن الشخصية القوية بالموهبة والمثابرة ستستطيع المرأة منافسة الرجال وفرض إمكاناتها وانتزاع الاعتراف بقدراتها ودورها. لهذا أتطرق إلى مثال الفرنسية ناديا بولانجيه (1887-1979) المؤلفة وقائدة الاوركسترا التي قادت أهم الأوركسترات مثل فرقة نيويورك الفيلهارمونية وأوركسترا بوسطن السمفونية وفرقة فيلادلفيا، الفرق التي أعتاد قيادتها رجال من وزن البريطاني البولندي الأصل ليوبولد ستوكوفسكي والايطالي آرتورو توسكانيني والمجريين يوجين أورماندي وجورج شولتي. وبولانجيه عملت كذلك في التدريس، ودرس على يدها عدد من موسيقيي القرن العشرين البارزين، مثل آرون كوبلاند وميشيل لوغراند وآستور بياتزولا.