إذا أردت أن تطلق على حي سكاني مأهول بالناس كلمة «عشوائية»، وأن الناس الذين يسكنون فيه يسببون قلقاً أمنياً واجتماعياً، ويهددون استقرار حياة المدينة، فهذا يمكن أن يحدث بسهولة. وكل ما يتوجب من أجل أن تطلق كلمة «حي عشوائي» هو وقف أنواع الخدمات الحكومية كافة، من كهرباء وماء وهاتف ووقف سفلتة الطرق وإنارة الأحياء، ووقف تصاريح البناء والترميم وخدمات البلدية بأشكالها كافة، وقف كل تلك الخدمات كفيلة بأن تحول أي حي سكاني إلى عشوائي ومهمل. استغرب من أمانات المدن السعودية أن ترضخ لضغوط الشركات العقارية الجديدة، حينما تطلق مسميات العشوائيات والمناطق الموبوءة، وأنها مصدر قلق أمني، وكأن هذه الأحياء قامت بعيداً من أعين المسؤولين في الأمانات والبلديات، ومع الأسف الشديد، لا تخجل هذه الشركات حينما تتحدث بهذه الطريقة عن أهالي وأشخاص كانت لهم البدايات المضيئة للإنسان المنتج من معلم ومهندس وتاجر وموظف ومثقف وعالم، وغيرهم، فضلاً عن سيدات فاضلات كان لهن الدور الإيجابي وأنجبن رجال مجتمع لهم مكانتهم. هذه الأحياء ولدت أمام أعين المسؤولين وكبرت ونمت، إلا أن مع تنامي وتوسعة المدينة، أهملت هذه الأحياء بشكل لافت، اهتمت الأمانات بشكل لافت وعملت لمصلحة المخططات العقارية، فامتدت أفقياً قبل أن تصلها الخدمات، وعلى رغم نقص الخدمات، إلا أنها سميت بالمخططات الجديدة، بهدف خدمة قطاع العقار وزيادة الأسعار وتسويق المخططات الجديدة. المعروف أن الأحياء العشوائية تقام بعيداً من أعين الدولة ومؤسساتها الخدمية في أطراف المدينة، وفي مخططات وأماكن لا تصلها الخدمات، وتقام فيها منازل عشوائية وغير منظمة، ويسكن فيها ناس لا يسكنون داخل المدن والأحياء. وحينما تطلق أمانات المدن والبلديات كلمة «أحياء عشوائية» على أحياء ومناطق سكانية مثل الرويس والبلد والنزلة اليمانية وكيلو 14 في جدة، وفي مكة أحياء مثل شعب عامر والسليمانية والمسفلة وشارع منصور وغيرها، وفي مناطق ومدن أخرى لأحياء كانت في السابق يعيش فيها أهلها ويمارسون حياتهم الطبيعية، وتتوفر فيها الخدمات والمرافق من دون أي تعقيد، هل يمكن أن نقول عليها إنها أحياء عشوائية؟! مصطلح العشوائيات، بدأت به شركات العقار والبناء والمقاولات التي دخلت هذه المناطق لشراء بيوت بأسعار رخيصة ومتدنية، وهو أسلوب «رخيص» لهضم حقوق الناس، والبعض منهم يعوض بمبالغ «بخسة»، أبداً لم تدخل شركة عقارية في منطقة إلا تضرر أهلها وتبددت أحلامهم من الحصول على التعويض، أو أرغموا على الرحيل والمغادرة بعد أن تتآمر عليهم جميع الجهات المعنية بتقديم الخدمات بقطعها أو فصلها عنهم. وبحسب دراسات اجتماعية وسكانية فإن مشكلة العشوائيات تعتبر من المشكلات المهمة التي تعاني منها الكثير من الدول النامية، كما تعاني منها بعض الدول المتقدمة، وإن اختلفت أبعاد المشكلة ووطأتها، وانتشار المناطق العشوائية في معظم دول العالم يعكس حجم المشكلة وأسبابها وتداعياتها السلبية التي تؤثر على المجتمع بأسره، إذ تعاني هذه المناطق من انخفاض مستويات الدخل، وتدهور الظروف السكنية، وارتفاع معدلات البطالة والأمية والتفكك الاجتماعي، كما أنها سبب رئيس لتدهور الخدمات وتلوث البيئة. وعادة تتكون هذه العشوائيات من مناطق تقام في غيبة من القانون ونتيجة للامتداد الارتجالي غير المخطط، ومحاولة الأهالي حل مشكلات الإسكان بشكل فردي. ففي غياب قوانين التخطيط والبناء، وفي ظل تزايد حدة أزمة الإسكان، نجد أن بعض الأفراد يلجؤون إلى البناء في أي مكان متاح، وبأي شكل من دون توجيه أو إشراف. حي الرويس في جدة، الذي يقول مسؤولون إنه حي عشوائي وشعبي، وإنه يسبب خطراً كبيراً على سكان جدة، أقول كيف تحول هذا الحي وغيره من الأحياء إلى عشوائي، وهو قبل 30 عاماً كان مصنعاً للرجال والنساء، وحينما تتحدث شركات العقار والمقاولات عن التطوير فماذا تعني هذه الكلمة، الأسلوب المتبع في تطوير الأحياء الشعبية والعشوائية الحقيقية هو إجحاف واضح لحقوق الناس، وهي إخراجهم بالقوة من أجل مصالح شركات وأفراد، هذه الأحياء كان يمكن أن تكون نموذجية ورائعة ومثالاً لأحياء قدمت للبلد والوطن رجالاً ونساءً نموذجيين، بترميم هذه الأحياء، والموافقة على بنائها، وتحسين خدماتها، واستمرار عمل المرافق الحكومية، وجعلها أحياءً قابلة للعيش لفئات من المستوى المتوسط والفقير من ذوي الرواتب المتدنية، مع تقديم نموذج رائع لمعالجة الخلل الاجتماعي والتركيبة السكانية. مع الأسف الشديد، كل النماذج التي قدمتها شركات التطوير العقاري في مكةالمكرمةوالمدينةالمنورةوجدة، هي نماذج تدل على الاستغلال لمصالح الناس والقفز فوق القانون، واستخدامها كمرافق سياحية وفندقية وتأثير هذه المشاريع على قطاع العقار والمخططات، في الوقت الذي يتم تفريغ أحياء من سكانها، في المقابل كانت تنشط مخططات بعيدة من التأهيل السكاني وبأسعار خيالية. طريقة معالجة الأحياء السكانية القديمة وتحويلها إلى منطقة فنادق ومطاعم ليست خطوة تنجح دائماً، كما أن الأحياء العشوائية لا تطلق على منطقة سكن فيها الناس فترة من الزمن وسط أعين المسؤولين، فبناء مكونات الإنسان من خدمات ومرافق وتطوير بناء ومساهمة شركات تحسين بيئة السكن، هي واحدة من المتطلبات المطلوبة لتطوير الإسكان في الأحياء القديمة، الحقيقة أنه توجد بعض شركات الإنشاء والتعمير قامت لإشباع هوسها الإسكاني وتحقيق الأرباح، فيما لم تقدم لنا نموذجاً لتطوير الأحياء بطريقة حضارية وإنمائية، وأسهمت الأمانات والبلديات في إطلاق مسميات تسيء إلى الأحياء القديمة وأهلها. وإذا ما استمرت الحال هكذا لشركات البناء والتطوير، فإن من السهولة تحويل أي مخطط سكني وعمراني إلى إطلاق اسم عشوائيات عليه، فقط بقطع الخدمات والمرافق الحكومية، وقتها ستهجم عليه شركات العقار لابتلاعه مع قليل من البهارات التي تستخدمها في بياناتها، ونبقى تحت رحمة هذه الشركات التي لن يكفيها الجشع حتى تحول كل المناطق السكنية إلى منتجعات وفنادق. كنت أتمنى أن تطلب الدولة من الشركات المطورة للمناطق والأحياء القديمة أكثر من نموذج يقدم فكرة مطورة للأحياء، وليس هدماً كاملاً للحي وتهجير سكانه، الأحياء الموجودة داخل المدن والنطاق العمراني، ووسط الأحياء السكانية، من المخجل أن نطلق عليها عشوائية، بل هي أحياء ومناطق أهملتها الدولة، فرفقاً بأهالي هذه الأحياء يا شركات التخريم العقاري. * إعلامي وكاتب اقتصادي. [email protected] @jbanoon