تظاهرة سياحية - تراثية قام بها «الختيار» اللبناني إيليا بربور على شاطئ مدينة صور الجنوبية حيث شيّد سفناً قديمة بساعديه الثمانينيين ليسهم في رفد سياحة جنوب لبنان وهي المنطقة التي عانت وتعاني وبشكل دوري من الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة. لكن ذلك لم يفتّ من عضد أهلها بشيبهم وشبابهم، صغارهم وكهولهم... وهذا ما ينبطق على إيليا بربور. قبل آلاف السنين، مخرت عباب البحر المتوسط سفن الفينيقيين الشهيرة التي كانت تنطلق من بحر صور لتطوف مدن العالم بفخر وسؤدد وتشق البحار مطلقة التجارة المتوسطية بكل عزم وقوة. وهكذا كان للفينيقيين فضل على العالم من خلال مراكبهم الضخمة القوية ذات الرؤوس المميزة على شكل حصان والمؤخرة التي تمثل ذيل الدلفين. لكن هل عادت سفن الفينيقيين؟ ستصيبك الدهشة فعلاً عندما تقع عيناك على سفينة فينيقية بأشرعة بيضاء وصوار ومجاذيف، تسيّرها سواعد بحارة أقوياء أشداء يخلعون على أجسامهم الزيّ الفينيقي الأبيض الذي يغطي القسم الأسفل من الجسم فقط. تحملق جيداً في ما تراه عيناك فتثور حشريتك وتستفسر: هل بُعث أجدادنا الفينيقيون في القرن الواحد والعشرين من بحرهم العظيم، بحر مدينة صور على الساحل اللبناني الجنوبي؟ تسأل فيقودك الصيّادون الى صاحب السفينة التي تبحر في زمن غير زمنها، فبانيها وصاحبها هو بحق «الفينيقي الأخير»! جائزة دولية انه إيليا توفيق بربور (ابو الياس) الجنوبي الذي لم تضنّه أعوامه الثمانون التي أمضاها رفيقاً للبحر حتى باتت شعراته القليلة البيضاء تحاكي زبد الموج المتلاطم على ضفاف المتوسط. و «العم» أبو إلياس يبدو مزهواً بما صنعته يداه وبعثته إرادته من مجد غابر وماض مجيد عبر صناعته سفينته خصوصاً بعد مرور 25 عاماً من «الحلم» ببناء مركب فينيقي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وهو الذي احترف صناعة السفن المتينة القوية من خشب صلب والتي توازي متانة السفن الحديثة من حيث القدرة على مقارعة الأمواج العاتية من جهة والصمود عبر الزمن من جهة ثانية، خصوصاً انها مبنية من خشب «الكينا الصخري» فضلاً عن الخشب الإفريقي. أكثر من ثمانين مركباً للصيد «من شغل» ساعدي إيليا بربور، كان صيادو الجنوب ولا يزالون يقبلون على استخدامها لمتانتها ودقة تصميمها. إضافة الى ذلك شيّد «أبو إلياس» ثلاثة مراكب ضخمة مميزة كان أهمها المركب الذي عرض في البرتغال، حيث شاركت وزارة الاقتصاد اللبناني في معرض دولي، وأحرز المركز الثالث دولياً. تمتاز سفينة ايليا بربور الفينيقية بتصميمها الفريد، فشكلها يتخذ طابعاً فولكلورياً إذا ما قارنّاه بتصميم السفن الحديثة، وهي تبدو خارجة للتو من متحف التاريخ محملة بالبحارة الذين تصدح صرخاتهم الجهورة مخترقة اليم العظيم لتخبر عن ماض سحيق. رأس حصان شامخ الى فوق يتقدم السفينة العنيدة، فيما تذّيلها زعنفة سمكة ضخمة تقارع المياه العاتية بأنفة وزهو. أما متنها (جسمها) الذي تخترقه المجاذيف فيبدو غريباً بالفعل وسط هذه المتاهة الحيوانية - البرية - البحرية المتداخلة، خصوصاً أن شراعاً أبيض يرفرف فوقه فتتكامل اللوحة بعد انضمام مقوّمات الحيوان الطائر الى البري والبحري. عمل أبو الياس 14 شهراً واصلاً الليل بالنهار في بناء سفينته التي يبلغ طولها 12 متراً بينما يبلغ عرضها 30.80 متر. هيكلها من الخشب الأفريقي أما عامودها الفقري (أو ضلعها) فمن الخشب البلدي المستخرج من شجر «الكينا» المنبثق من الصخور القاسية ما يزيدها صلابة وتماسكاً. وتزّنر السفينة كوّات جانبية يتهادى منها 12 مجذافاً خشبياً (6 من كل جهة) تضرب صفحة الماء لتزيد من السرعة، بينما تنتصب في وسطها سارية واحدة ترفع الشراع التقليدي والعلم الفينيقي بألوانه البيضاء والحمراء. أما البحارة الذين يعملون على متنها فيبلغ عددهم 15، وفضلاً عن «المجذّفين» هناك ثلاثة آخرون يطلق عليهم اسم «الريّاس» بلغة البحارة والصيادين ويرتكز دورهم في السفينة الفينيقية على الإشراف على «المجذّفين» والانتباه أثناء دخول وخروج السفينة من المرفأ. ها هو «العم ايليا» يضيف معلماً سياحياً تراثياً الى المعالم الأثرية والتاريخية والجمالية الكثيرة التي تتمتع بها مدن الساحل اللبناني وخصوصاً الجنوبي. وإذا كانت السفينة الحلم تحققت على يد بحار لبناني وبجهود شخصية بحتة، فان ساعدي هذا الرجل لا تكّلان... فها هو يشرع بتشييد سفينة فريدة أخرى وهي سفينة البطة «swan» التي أبحرت فيها «اليسار» ملكة صور قبل آلاف السنين. وها هو «الفينيقي الأخير» يذكرنا من جديد بحضارات غابرة.