صورة طبقية عميقة للعالم العربي تكفي لأن نرى بوضوح الفسيفساء الهشّة التي تتشظى عند أول قنبلة حضارية تعصف به، والنموذج العراقي، خير دليل على ذلك، فبعد 2003، تناثرت بغداد إلى جيتوهات معزولة ومنغلقة على نفسها، ودخلت البلاد إلى زاوية معتمة من احتمالات التقسيم، وحتى البنية الفلسطينية الصلبة، تصدعت تحت وطأة الاختيار. والربيع العربي، كدورة حياة، هو تجربة أكثر عمومية، وأوقع تأثيراً، استطاعت أن تكشف بعد عقود من سياسة (فرض الواقع)، لهفة مكونات المجتمع إلى الانكفاء حول رغباتها الفئوية، وتطلعاتها، طائفية كانت.. عرقية أو مصلحية. وهو الاستنتاج الذي أطلق عليه البعض اسم (الفوضى الخلاقة) استياءً، لكنها في الحقيقة، صورة طبيعية لما يمكن أن تؤول إليه العلاقات - في مجتمع مقموع بشذوذ اللامنطق الذي كان يعيشه - عند رفع القيود، وإتاحة حرية الانتقاء. الفكرة إذن تقبع في ما يمكن اختياره، بعد فترة صيام قسري طويلة عن القدرة على تقرير ما نريد، ضمن مفهوم العقد الاجتماعي الذي يجب بالضرورة أن يحيل الإرادة الجماعية إلى خانة المنطق، والمصلحة معاً، بيد أن الصورة باتت مغايرة إلى حد كبير، والرغبات الجماهيرية المتنوعة، أكثر تعقيداً من تنسيقها في زهرية واحدة، انسجاماً مع فكرة التنوع الثقافي الجميل في بوتقة وطنية قُطرية، أو قومية تقدمية. وهنا فقط تلعب الخرافة التي أتت بها معتقدات كانت حبيسة قمقمها، دوراً في تنشيط النعرة الطائفية، ويقابلها فشل الأغلبية المقموعة أيضاً عن التفريق بين ما هو مقدس وما هو قابل للدحض.. وفي الشقوق المتفتقة عن الخرافة والجمود تنسل الصور الضوئية العابثة، ارتجالاً أو احتيالاً لتقلب المشهد رأساً على عقب.. ويصبح بالتالي المجتمع العربي، أنشوطة يسهل إحكامها، بالصورة التي يعجز فيه الفرد عن التفريق بين الخرافة والمقدس، وما تأتي به الأطياف الضوئية من الشبكة العنكبوتية أو الإلحاح التلفزيوني. فهل أراد الإنسان العربي لنفسه هذا المصير، أم أن (المجهول) أراد له ذلك.. في الإجابة الصعبة، نتلمس الفرق بين الإخفاق والمؤامرة. ومهما افترقت الحقيقة عن ظلها، فإنه قد أصبح من الممكن جداً العبث بعقول باتت ألعوبة بأيدي الخرافة والمحرمات من جهة، والإعلام من جهة أكثر حذاقة. خاصة إن كان استحضار كلمة حق يراد بها باطل، سهلا، يحيل القاتل إلى ضحية والعكس، ويمعن في تلطيخ ما هو ناصع إلى الدرجة التي تجعلنا نشعل شمعة لنرى الشمس. وهذه هي ضالة الكثيرين، من الذين يبحثون عن منجاة من التيه، وغابة الأسماء التي نمت في فضاء العالم العربي، وجزأته إلى موالين وممانعين ومطبّعين وعملاء ومقاومين.. وغيرها من الألقاب التي سرعان ما تحولت وتبدلت وتناساها التاريخ، فصار من غير الممكن التفريق بينها، أو تذكر أصحابها! والفوضى الفكرية التي نعيشها بطواعية الخاضع للواقع مهما تبدل، تؤكد لنا ضرورة أن الإنسان العربي يحتاج بداية لأن يفهم، قبل أن يقرر أو يؤمن، وطالما أنه لم يستوعب بعد ما هو مقدس، لأن التقديس لا يمكن تلقينه لتلاميذ مدرسة ابتدائية، أو ترسيخه بترديده كنشيد وطني في طابور صباحي، فإن كل ما يمكن أن يأتي لاحقاً لن يتعدى حالة التسليم، التي لا تؤهل صاحبها لحياة صحيحة في المجتمع الذي ثار من أجل تحقيقه. وطالما استكان أو انتفض بأنانية، فإنه قريب من نفي المنطق الذي افتقده في حياته السابقة، بل أكثر قرباً لأن يفتعل عصبية تساعده على بناء الأحلاف في مجتمع مفكك، يبحث عن التجاذبات ليصل إلى حالة استقرار قادرة على فرض منطق آخر يأخذ في طياته الخرافة، والجمود، وفوضى الأحساسيس. هذا المنطق الجديد الذي يؤكد لنا أننا بصدد مواجهة قادمة مع فلسفة (فرض الواقع) التي فرّ منها الجميع كالقطعان السائبة، لتعود إليها بعد هلول الربيع، ضوار تبحث لنفسها عن مكان على رأس الهرم الغذائي.