يحذّر جاك لندن في روايته «جون بارليكورن» (ترجمة أسعد الحسين، نينوى، دمشق 2014) من خطورة المشروبات الروحيّة على حياة الإنسان، وذلك بعيداً من طريقة الوعظ والإرشاد، أو التلقين والفرض، بل عبر سرده سيرة شخصيّة تتعاطى تلك المشروبات. يحكي لندن عن حادثة تقع في إحدى الولايات الأميركيّة في بداية القرن العشرين حيث يجرى تصويت على قانون لمنع الخمور. وفي ردّه على امرأة تسأله إن كان قد صوّت بنعم أو لا على القانون الذي يمنع تعاطي المشروبات الروحيّة في الشوارع، ويسعى إلى الحدّ منها، يقول الراوي إنّه لم يكن أبداً صديقاً لجون بارليكورن إلا عندما يكون معه، ويتظاهر بأنّه صديقه إلى أبعد الحدود. ويصفه بأنّه سيد الكذّابين وأكثر قائلي الحقيقة صراحة، وأنّه الرفيق الذي يثير الأوهام العظيمة في النفس، والذي يؤدّي طريقه إلى الحقيقة المجرّدة والموت، ويعطي رؤى واضحة وأحلاماً مشوّشة. كما يصفه بأنّه عدوّ الحياة ومعلم الحكمة التي تتجاوز حكمة الحياة. وأنّه قاتل مضرّج اليدين يذبح الشباب. يذكر بطل الرواية أنّه كان قد تعاطى بعض الكؤوس قبل أن يذهب الى التصويت، وهناك يقع تحت تأثيرها، لكنّه يحاول التماسك، ويسعى إلى لعن مفعولها، يقول إنّ بارليكورن كان في هياج لقول الحقيقة، وللكشف عن أدقّ وأهمّ أسرار نفسه، وإنّه كان الناطق بلسانه. يعترف بأنّه تحرّكت حينذاك أعداد هائلة من ذكريات حياته السابقة التي رُتّبت كلّها مثل جنود في استعراض عسكريّ واسع. ينتقي المفردات والأحداث، يقول إنّه كان مولى الفكرة وسيّد المفردات والمجموع الكلّيّ لتجربته، وإنّه كان قادراً على نحو أكيد على انتقاء معلوماته وبناء شرحه وعرضه، ولذلك فإنّ بارليكورن يخدع ويغوي ويطلق اليرقات التي تقضم الذكاء ويهمس ببديهيّات الحقيقة المميتة ويزجّ بممرّات أرجوانيّة داخل رتابة أيّام المرء. يوجز السارد للمرأة تشارمن، حياته ويشرح لها تركيب تكوينه. يذكر لها أنّه لم يكن سكّيراً بالوراثة، وأنّ الكحول كان ذوقاً مكتسباً. وتمّ اكتسابه بصورة مؤلمة. وصف لها أول اتّصال له مع الكحول، روى لها أولى حالات ثمله وردود فعله. وذكر لها أنّ سهولة منال الكحول هي التي أعطته ولعه بها، وأنّه لم يكن يهتمّ بها بل كان يسخر منها. وأنّ غرس رغبة السكر استغرق عشرين سنة لتكبر وتنمو عنده. ويؤكّد أنّ الخمر طريق مختصر للموت البائس والأمراض المستعصية وأنّ له طاقة تدميريّة على المرء والمجتمع، وأنّه من أجل ذلك صوّت لمنعه. تطلب منه تشارمن أن يدوّن مذكّراته في الخمر والسكر، لأنّ تجربته قد تكون عبرة لغيره، وربّما يساهم بقسطه في دفع الناس للابتعاد عن الكحول. يقتنع بطلبها، ويبدأ بسرد مذكّراته منذ الطفولة وحتّى مرحلة إدمانه معاقرة الخمرة، وتطيّره منها وتصويته من أجل منعها. يستهلّ بالحديث عن المرّة الأولى التي غافل أهله وشرب بالخطأ كمّية من الكحول، تسبّبت له بالغثيان وأنهكته وسمّمته، فكانت تجربة شاقّة لقّنته درساً قاسياً، ما ولّد لديه الخشية من الاقتراب منها، ولكنّه عاد الى التجربة تالياً تحت سطوة الجوّ العامّ وتسيّد الكحول الجلسات والسهرات كلّها. يحكي واقع عمله في البحر، ومنادمته الرجال السكارى الذين كان شرب الكحول وسيلتهم للتخفيف عن أنفسهم والترويح عن ضغوطات الواقع التي يقاسونها، وسبيلهم للهروب من الواقع إلى السراب، فكانت الخمرة ولعهم ونيرانهم الحارقة. يصف العلاقات السطحيّة التي كانت تسود أجواء السهر والسكر، وكيف أنّ السكارى يختلقون المشاكل ويتسبّبون بها، ويقعون في فخاخ جنونهم الذي يدفعه إليهم الشرب، لدرجة تطيح بعضهم، وتقضي عليهم. يعترف الراوي بأنّ أبواب البارات كانت مفتوحة بوجهه دوماً، وأنّها كانت الملاذ الذي يجد فيه راحته وأمانه وسعادته مع الغرباء، ويبدّد فيه غربته، إذ لم يكن يحتاج إلى وقت طويل للدخول في حلقات السكارى، بل كان مجرّد الانضمام إليهم يكفل له رفقة سريعة خاطفة، وتزجية للوقت وتعرّفاً إلى الجوار والشخصيّات التي كان الشراب بالنسبة إليها أسلوب حياة، وعالماً قائماً بذاته. يذكر أنّه تخلّى عن ذاته وكرّسها للحياة، وطوّر فكرة خاطئة عن جون بارليكورن مفادها أنّ سرّه يكمن في الاستمرار في نوبات شرب مجنونة عبر مراحل متتالية لا تتحمّلها سوى بنية جسم حديديّة إلى الخدر النهائيّ واللاوعي البهيميّ. وأنّه يجمّل الطريق إلى الانتحار، ويتسبّب في كثير من حالات الانتحار وفي كثير من الجرائم التي يدفع إليها أو يمهّد لها بتسميمه للأعصاب وتبليده وإتلافه لها، والإيحاء للسكّير أنّه يمكنه تحقيق المستحيلات، وتدوير الدوائر والتفوّق على نفسه والآخرين. اشتغل بطل الرواية في بعض الأعمال التي احتاجت منه جهداً كبيراً، ثمّ اقتنع بعد ذلك بوجوب استخدام ذكائه بدلاً من القوّة الجسديّة، فلجأ إلى الدراسة ليتابعها، ولم تكن طريقه معبّدة تماماً في عالم الدراسة، بل قوبل بعراقيل كثيرة، اضطرّ إلى استكمالها اعتماداً على ذاته، وتقدّم فيها. لجأ إلى الكتابة التي أصبحت مصدر رزقه، ووسيلته للتعبير عن ذاته وإيصال أفكاره ورسائله إلى الآخرين. يقتنع الراوي الذي يصوّت لقانون منع الخمور بأنّ الأمّهات هنّ اللواتي سيدققن المسمار في نعش جون بارليكورن. وأنّه يستطيع القول إنّه يتمنّى لو أنّ أسلافه طردوا بارليكورن وحاصروه قبل زمنه. ويذكر أنّه يندم لأنّ بارليكورن كان يزدهر في كلّ مكان في منظومة المجتمع الذي ولد فيه، وإلا لما تعرّف إليه، ودرّب طويلاً في معرفته، وظنّ أنّه حقّق له ثملاً فكريّاً في بعض المرّات. يعترف بأنّ حظّه الحسن ساعده على النجاة من تدمير الكحول، وأنّه كناجٍ من حرب دامية قديمة يصيح عالياً: «لا تسمحوا بحروب أخرى. لا تسمحوا بقتل مسمّم آخر من جانب الشباب». ويقول إنّ الطريقة لوقف الحرب منعها، والطريقة لوقف الشرب منعه. ويصرّح أنّه لا يكتب من أجل الكحوليّين أو غيرهم، وإنّما من أجل الشباب الذين لا يملكون أكثر من مجرّد لسعات المغامرة ونزعات المؤانسة الودّيّة، ودوافع الإنسان الاجتماعيّة التي تحرّفها الحضارة البربريّة وتغذّيهم بالسمّ في كلّ البقع والأماكن. يقول إنّه يكتب من أجل الصبيان الأصحّاء الذين ولدوا الآن ويولدون. يكتب لندن متوجّهاً إلى القارئ مباشرة ومن دون تورية، يذكر من خلال راويه أنّه بذل أفضل ما بوسعه ليعطي القارئ لمحة عن مسكّن سرّيّ لرجل يشارك في جون بارليكورن ويجب على القارئ أن يتذكّر أنّ المزاج الذي قرأه ليس إلا مزاجاً من أمزجة بارليكورن التي لا تحصى، وأنّ توالي الأمزجة قد يدوم على مدار الساعة عبر أيّام وأسابيع. ويؤكّد أنّ ليس هناك نسبة كبيرة من الرجال استطاعت النجاة ومعاقبة الكحول كما عاقبها في سنوات رجولته، وأنّه عاش ليروي الحكاية. ونجا لأنّه لا يملك كيمياء المصاب بالكحول، ولأنّه امتلك كياناً حيّاً مقاوماً لم يتمكّن بارليكورن من إتلافه. وبنجاته، شاهد الآخرين الذين لم يكونوا محظوظين، يموتون على طول الطريق الطويل الحزين. يظلّ ما يسعى جاك لندن إلى تعميمه وتأكيده قابلاً للزمن المعاصر كما الماضي، وهو الذي أكّد في بداية القرن العشرين أنّ الشيء المنطقيّ الوحيد الذي يجب على أهل القرن العشرين فعله هو أن يغطّوا البئر، وأن يجعلوا قرنهم قرناً عشرينيّاً حقيقيّاً، وأن ينفوا ويبعدوا إلى القرون السابقة أشياءها، مثل حرق الساحرات والتعصّب والأصنام، وكذلك جون بارليكورن الذي لا يقلّ خطورة عن تلك البربريّات. وجاك لندن نشر قصّته الأولى «إعصار على ساحل اليابان» 1893، بعد رحلة بحريّة إلى سواحل سيبيريا واليابان. ثمّ توالت سلسلة أعماله الروائيّة والقصصيّة، منها: «ابن الذئب»، «ربّ الآباء»، «ابنة الثلوج»، «أولاد الصقيع»، «بيت الغرور وحكايات أخرى من هاواي»، «الوحش المخيف»، «وادي القمر» وغيرها. وقد أنتجت هوليوود أكثر من أربعين فيلماً سينمائيّاً عن أعماله.