الحبّ ذريعة الديوان الأوّل لقدرٍ لا بأس به من الشعراء الشباب، فهذا الموضوع الشعري الكبير، يتميّز بأمرين اثنين: القدرة على الاتصال السلِس بقارئ مفترض، يظنّ الشّعر لا يأتي إلا من دقّة المشاعر ورهافتها تنعكس كلاماً أثيريّاً جميلاً. والثاني، وهو الأهمّ، أن الشاعر عبر ولوجه سِحر الكلام من باب الحبّ، إنما يشرّع لمشاعره كافّةً، لا العاطفيّة وحدها، أن تظهر في كلماته الأولى المرصوفة، إلى هذا الحدّ أو ذاك، بجهدٍ حقيقي يُبطن معرفةً بفنّ الشّعر وأساليبه، أو ربما بجهدٍ خفيفٍ ينمّ عن استسهال لا يفرّق بين الخواطر أو الشّعر مثلاً، أو استسهالٍ آخر لا يتحرّج من التأثّر حدّ التقليد بشعراء مكرّسين يُشار إليهم بالبنان. ونصيب الشاعرة اللبنانيّة الشابة عبير خليفة من الوصف أعلاه، هو من دون شكّ، الجهد الحقيقي لا الخفيف، فباكورتها «أنا الأميرة، أنا الأمَة»، ( دار النهضة العربية )، تبيّن أنها أصغت طويلاً لأصول الصنعة الشعريّة، وتدرّبت عليها، وانتبهت إلى أمرين اثنين: الأوّل هو اختيار مفردات بعينها والعمل على شحنها بمعانٍ متلونة (القمر، الظّل، الريح، الضبّاب...الخ)، تفضي إلى إخراجها من المعنى القاموسي نحو المجازي. والأمر الثاني هو الانتباه إلى بناء القصيدة الحديثة بصورتها التركيبيّة إن جاز التعبير. إذ يلفت النظر حقّاً ذاك الاهتمام بالعبارة التي لا يمكّن إلا عدّها شعريّة:»كأنّي رُميتُ بين أشواكٍ قطنيةٍ تُغريني نعومتها ويعميني/ البياض،/ فماذا أصنع بفتنتها/ وأنّى لي أن أعرف أنّه روحي أو أنّي سلبته روحه،/ أنّى لي أن أغفر للسعادة طرقها الملتوية». أو «حين كان منديلها الأبيض يذهب مع الريح/ كنت أذوق سكّر عمرها وخلاصة الحنان»، أو «البحر تمنّى صعود موجة أخرى/ ارتماءَ حورياته على الصخور/ انقلابَ تعويذة اللؤلؤ/ ظهور المرأة بلا ياقوت الظلال». اقتناص الإلهام ليس هذا فحسب، بل إن الجمل الآتية تسبقها وتتلوها جملٌ لا تقلّ عنها شعرية. إذ أدركت عبير بحدسها - موهبتها في اقتناص الإلهام- أن أحد أبواب الشعر ليس الصورة الجميلة المنفردة، بل تلك التي تأتي ضمن سياق القصيدة، الأمر الذي ظهر أثره في اختيارها لبناء قصيدتها وفقاً لتقنية معينة، تقوم على الابتعاد قدر الإمكان عن السرد الذي يجنح لنصب كمائن النثر البسيط، والاستناد ما أمكن إلى الصور الشعرية، وإلى الجمل التي تغيّر المعاني القاموسيّة لمفردات متواترة في الديوان، على نحو يشفّ فيه معنى القصيدة العامّ بعد قراءة متأنيّة: «طوقتني بحلمٍ فسرتُ معك/ ولأحققَ المحال أغمضتُ عينيّ/ تحسّستُ الصدف بصوتك/ تبعتك إلى الموجة الأخيرة/ إلى المد الأخير قبل سقوط القمر»، فمفردات؛ الحلم، المحال، الصدف، الموجة، القمر، خارجةٌ تماماً عن المعنى القاموسي، ذاهبةٌ فرادى باتجاه كناية تتكشّف على مهل، لتفضيَ مجتمعةً عن استعارة حسيّة شفيفة. وإن كان ممكناً التقاط الحسيّة الخفرة المتوارية في ثنايا قصائد عبير، إلا أنّ ذلك لا يعني أن ديوان الحبّ هذا ينبع من ماء تجربة، لا فالظنّ ما زال عند أوّله: الحبّ ذريعة عبير لتقول شعرها الأوّل. إذ من الصعب الاقتناع أن الشاعرة الشابة تتوجه بكلماتٍ كهذه الآتية إلى حبيبٍ ما: «متى أنسى الشّعر لديك فأشفى وأهديك علّتي لتحيا؟»، ذلك لأنّ سؤالٍ مماثلٍ لا يوجهه إلا شاعرٌ /ة إلى نفسه /ها، فهو الأكثر حساسيّة في ما يخصّ التعبير عن كنه ذاك السحر الذي يلمّ بمحظوظٍ ما كي يغدو شاعراً. يفضي ميل الشاعرة الشابة إلى صوغ قصائدها بطريقة تركيبية كما أسلفنا، كذلك إلى أمرٍ مختلف؛ الانجذاب شبه العفويّ إلى الحكمة المغلّفة بنسيمٍ من التصوّف، إن صحّ التعبير، لأنّ اللعب على انزياح الكلمات بهذه الطريقة الذكية، يبطن من جهة أولى، تدرّباً حقيقياً على كتابة الشعر، ويظهر من جهة ثانية كيف أن هاجس إنشاء لغة في اللغة قد يتقاطع مع ماء نهر المتصوفين: «الصوابُ محجوبٌ/ فسرْ خارج هذا الباب واطرقْ جهنم» أو «وإلى الأبد عشقٌ يوصلني وعشقٌ يرجعني/ أقفُ أمام الوقت أسأله موعدَ غفوته وموعدَ صحوتنا/ نكادُ لا نلتقي. أصلُ فترحل. ترحلُ فتحينُ قيامتي». حكمة البراءة على حافّة السرد، وعلى حافّة التصوف، تطلّ جمل عبير ممتلئة حكمةً: «أكتب لا لأكشف الحجاب عن وحدتي/ أكتبُ لأنسى أن هناك آخر خلفي عليّ مراعاة شعوره/ أستسهلُ الصمت في الحياة لأنّ الضجيج يكفيها»، أو «الفراشة بين ضوءين تحرقها حيرتها لا الضوء»، أو «الوعد رصانة طيش فلا تثق». فهذه الشاعرة الشابة تفاجئ القارئ بقدرتها على رصف الكلمات الحكيمة، وهو دليلٌ إضافيّ على تدرّبها على مراودة الشعر، من دون أن تعني تلك الحكمة أن قصيدة عبير هي قصيدة مفكّر بها أو ذهنية. فما فكّرت به، ليس الموضوع الشعريّ منبتاً عن أرضه، بل كيفية قول الذات الشفيفة شعراً. بين قصيدة وأخرى تطلّ جملٌ آسرة :»أرى البدع تطير كالشهب تلسع النجوم، تؤذي القمر/ هناك حياة ليستْ لي عشتها»، أو «حياتي لا أجدها إلا في بلوّر الحدس/ تجرفني رعشاتُ الربيع والشتاء القادم بخفِّ الحنان/ وما أحياه لا يُلمس»، تفصح بأناقة عن «أنا» الشاعرة غبّ تفتحها في التعبير الجميل عن دقائق النفس البشرية بتناقضاتها وأهوائها، بنزواتها وتجاربها. ثمة مفاجأة أخرى لدى عبير الشابة؛ مسحة الحزن في قصائدها، التي يبدو أنها استوطنتْ في قلبها: «فكيف أجد الخلاص وللغدر أماكن شتّى، وأحدٌ لا يحمي رأسي/ من القطع؟» أو «كالريح لا أصلُ إلى مكانٍ وكهلالٍ لا يكتملُ حظّي»، صحيحٌ أن «المحال» في الحبّ يغلّف تلك المسحة، لكنه لا يبرّرها تماماً، ولعلّ الروح الشفيفة في الانتباه الدقيق إلى المعاني (في الواقع والمجاز)، فتحت لقصيدة عبير طريق الحزن هذا. يثير ديوان عبير الأوّل هذا الإعجاب حقّاً، إذ اختارت من الطرق أكثرها صعوبة وجديّة، غلّفتها بالحبّ الموجه لمخاطبٍ ما، ليس الحبيب بالضرورة، كي تقول ما يعتمل في نفسها من حساسية واقتراحات جمالية، مع ذلك لا بدّ من الانتباه إلى تفصيلٍ خاصّ: فقدرة الشاعرة على إنشاء الانزياحات، وعلى تركيب الجمل، ينقصها الانتباه إلى أن تواتر رصف الصور الشعريّة والحكم، قد يخفّف من صلابة بناء القصيدة، فيبدو باهتاً متواريّاً خلف صورٍ جميلة تتنامى لكنها لا تشدّ البنيان، ربما كان على الشاعرة أن تتدرّب ولو قليلاً على الحذف، فهو الكفيل بإظهار موهبت ها اللافتة في كتابة الشعر، وربما عليها أن تنتبه أكثر إلى توزيع السطور لئلا يذوب الإيقاع في متاهة صورها الشعريّة الجميلة. ولا يبطن هذا الكلام أيّ انتقاص من موهبتها الطرية الجميلة والواعدة، إذ نادراً ما يكون الديوان الأوّل متقناً، وديوان عبير خليفة ينمّ عن شاعرة مختلفة حقاً، تعلم أن طريق الشعر طويل، لكنه جميل ومشرّع لما كتبته وستكتبه، إذ إن اختياراتها الفنيّة تقول أيضاً إنها تنظر إلى الطريق ونصب عينيها مشروعها الخاصّ فيه، واختياراتها الفنية ثانيةً تثير إعجاب النقد فيكتفي من عنوان ديوانها الأوّل لها، بأولّه: الأميرة.