في عام 2013، أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما مشروعاً عملاقاً لسبر أغوار الدماغ البشري حمل اسم «مبادرة الدماغ» Brain Initiative. تضمّنت المبادرة مشاركة آلاف العلماء، مع تكلفة إجمالية تتجاوز بلايين الدولارات. وفي أوقات سابقة، أطلق الكونغرس الأميركي مشاريع متنوّعة (ك»عقد الدماغ» Brain Decade في التسعينات من القرن الماضي) لدعم بحوث تدرس النشاطات العقليّة للبشر. ويضاف إلى ذلك وجود «مشروع الدماغ البشري» Human Brain Project، الذي أطلقه «الاتحاد الأوروبي». بذا، يبدو أن العالم المتقدّم يشهد سباقاً علمياً محموماً في مجال التعرّف إلى الدماغ، ما يعيد إلى الأذهان حماسة التنافس للوصول إلى القمر في فترة الحرب الباردة. واستناداً إلى تلك الصورة، من المستطاع القول إن البحث العلمي، خصوصاً في مجال الدماغ، يحتل موقعاً بارزاً في المزاج الشعبي العام في الغرب، بل أنه يؤثر في صناعة خطاب الساسة الغربيين. وهناك مبادرات سياسية تمثّل صدى لذلك الميل عند الحاضنة الاجتماعية الشعبية التي تتلقّف التقدّم العلمي المتراكم خلال العقود الأخيرة، ليتوّج قرناً من الاكتشافات في مجال الدماغ والجهاز العصبي. تدين تلك الاكتشافات إلى جهود آلاف العلماء والمبدعين، والتطورات الهائلة على المستوى التكنولوجي كوسائل التصوير الإشعاعي والمغناطيسي والوظيفي وغيرها. وفتحت التطوّرات الباب على مصراعيه لدراسة الدماغ أثناء تأدية وظائفه. كما بات ممكناً تتبّع نشاط الدماغ أثناء القيام بأفعال يوميّة (الاستمتاع بالطعام والشراب، والإحساس بالألم والخوف والسعادة، والاستماع إلى الموسيقى، واسترجاع شريط الذكريات وغيرها). وعلى ضوء هذه المستجدات أُعيدَ طرحُ كثير من القضايا الجدلية التي شغلت الساحة الفكرية قروناً، كالعلاقة بين العقل والجسد، والوعي والدماغ، والوظائف العقلية والنسيج العصبي وما يشبهها. ويعني ذلك أيضاً أن ثورة علوم الدماغ ليست حكراً على العلوم الطبية والبيولوجية، إذ تشكّل دراسة العقل والوعي ونشاط الجهاز العصبي، جزءاً من المواضيع التي تهتم بها الفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية. استغلال العلم في المقابل، لا تخلو تلك التطوّرات العلمية والمبادرات السياسية التي تدعمها، من مخاطر، إذ أنها لا تتمتع بقبول مطلق لدى جمهور العلماء والباحثين. وجرت إثارة شكوك وانتقادات حول نجاعتها. وأُطلِقَتْ تحذيرات أخلاقية في شأنها. ويضاف إلى ذلك المخاوف من آثارها السلبيّة المحتملة، وهي تشمل التغيّر في فهم الطبيعة البشرية مع ما يتبع ذلك من تبدّل في مقاربة العالم وإدراكه. وثمة مخاوف مشابهة من إمكان استغلال نتائج تلك البحوث من قِبَل أصحاب السلطة والقوة والمال، ما يمكّنهم من التحكّم بأدمغة الناس ومراقبتها، إضافة إلى اختزال البشر عمليّاً في مجرد كونهم «أشياء» مُسيّرة تحمل أرقاماً. الأرجح أن الحجج الواردة آنفاً لا تبرّر تعطيل مسيرة البحث العلمي. ولا بد من الانتباه إلى أن الثورة العلمية في مجال العلوم العصبية ربما تخفي وراءها «محنةً» يمكن أن نطلق عليها تسمية «محنة استكشاف الدماغ». ومع التسليم بأن ملامح هذه «المحنة» وأبعادها لم تتضح بعد، إلا أن الدماغ البشري يضطر إلى مواجهتها والتعامل معها، عاجلاً أو آجلاً. في الشطر المقابل من الكرة الأرضية، يواجه الدماغ البشري في المنطقة العربيّة «محنة» من نوعٍ آخر، بل أنها مضاعفة ذات صيغة رجعيّة. فمن جهةٍ أولى، هناك التخلّف الذي يضع العرب تلقائيّاً على هامش التطوّر العلمي، إذ أن المنطقة بعيدة عن المساهمة في جهود البحث العلمي، بل إنها لا تزال تصَنّف المعرفة وفق منطق العصور الوسطى. ويمارس العرب سجالاً عتيقاً عن مشروعية «العلم الدنيوي» وأفضلية «العلم الديني». وكذلك ينغمسون في حروب «ما قبل حداثية» تنتج من الاختلاف على بديهيّات العيش الآدمي. وتجعل تلك الأمور من التفكير في القضايا العلمية عموماً، ترفاً زائداً عن الحاجة، بل من دون قيمة معتبرة. ومن جهةٍ ثانية، لا تقتصر «المحنة» التي يواجهها الدماغ عربيّاً على التخلّف العلمي وغياب النية أو القدرة على استكشاف خباياه، مع ما يحمله ذلك من جدلٍ أخلاقي ومحاذير شتى، إذ تتجاوز «المحنة» ذلك لتبدو كأنها تسعى نحو هدفٍ معاكسٍ تماماً: «استئصال الدماغ» كلياً من عموم المنطقة العربيّة. ويظهر ذلك الاستئصال المجازي في الاستحضار الهَوَسي لكل الفانتازيات التي تغتال العقل أو تخدّره، وممارسات القمع والتكبيل، ومحاولات الإفناء والإبادة الفكرية والمعنويّة والجسديّة والماديّة. كما لا تقتصر تلك «المحنة» في المنطقة العربيّة على دول شهدت اضطرابات عنفية خلال السنوات الماضية. وتلاحَظ محاولات الاستئصال المجازي للدماغ حتى في دول تنعم (أو كانت) بالأمان والاستقرار.