تعطي السياسات الايرانية مبرراً لتفحص المقولة عن الطموحات الامبراطورية التي استيقظت في رؤوس المسؤولين الإيرانيين. واستغلت إيران سلسلة طويلة من الظروف العربية البائسة تمتد من تدمير العراق واحتلاله، إلى الصراعات العربية - العربية وانعدام المبادرة والرؤية الاستراتيجية عند الدول العربية الرئيسة، من جهة، والاستثمار في القضية الفلسطينية من طريق تسليح وتمويل الفصائل التي والت طهران سياسياً، من جهة ثانية، لتبني لها مواقع صلبة في العديد من المفاصل المهمة. ما يدعو الى الكثير من القلق الضغط المتعدد الأساليب الذي تمارسه إيران على الشيعة العرب لحملهم على الالتحاق بها على المستويين المذهبي (الاعتراف بنظرية «ولاية الفقيه» التي لم تكن في يوم موضع اجماع بين فقهاء المذهب الشيعي، على عكس ما يزعم أنصار إيران، وخصوصاً التأويل الذي يعطي ولي الفقيه الإيراني حق الولاية على الأمة الاسلامية بأسرها)، والسياسي العملي الذي يحض الشيعة العرب على ابداء التأييد الكامل للمواقف الايرانية وفي كل المناسبات. تذكر هذه الممارسات بسعي المانيا الهتلرية الى استغلال الأقليات الناطقة بالالمانية في شرق أوروبا عشية الحرب العالمية الثانية. وتلاعبت النازية بتلك الاقليات أسوأ تلاعب واستخدمتها ذريعة لاحتلال مقاطعة السوديت التشيكية عام 1938 وفي زرع التوتر في القارة. ومعلوم ان ابناء تلك الاقليات دفعوا اثماناً باهظة لسياسة هتلر بعد هزيمته وتنوعت مصائرهم بين الترحيل والقتل والقمع لأعوام طويلة. السلوك الخطر للسلطة الايرانية حيال الطائفة الشيعية العربية، ليس غير مكون واحد من مكونات النهج الامبراطوري الايراني. ناقشت كتابات عدة مسألة قدرة إيران على انشاء امبراطورية وادامتها (راجع على سبيل المثال مقالة ماجد كيالي «هل باتت ايران دولة عظمى حقاً؟» على موقع «الجزيرة. نت») لكن السؤال هو: هل تحتاج إيران الى امبراطورية؟ ودُرست الامبراطورية ككيان سياسي دراسة وافية وباتت معروفة الظروف المحيطة بنشوء الإمبراطوريات وأفولها. وباتت معروفة ايضاً الشروط اللازمة لتحول الدول الى امبراطوريات. وجلي أن الطموحات والرغبات التي قد تتلاعب بسياسيي هذه الدولة او تلك، لا تكفي لقيام امبراطورية. ويبدو غير مكتمل الأسس أي حديث عن مسعى إيراني لبناء امبراطورية اذا لم يأخذ في الاعتبار الوضع العالمي الحالي. فانفتاح الاسواق والحدود وتشكل اقتصاد معولم ومترابط، يفترض أن تكون الامبراطورية على مستوى الكوكب أو لا تكون. ومستوى التداخل بين العوامل الاقتصادية والجيوسياسية والاستراتيجية والعلمية - التقنية، لا يتيح فرصة امام ظهور امبراطورية اقليمية، او حتى قوة عظمى اقليمية. هذا ما يمكن استنتاجه من الحدود التي اصطدمت بها اسرائيل، على سبيل المثال في محاولاتها توسيع حربيها على لبنان وعلى غزة، وفي رغبتها توجيه ضربات عسكرية الى المنشآت النووية الايرانية من دون الحصول على موافقة صريحة من القوة الامبراطورية الحقيقية (الولاياتالمتحدة). وفي الحال الايرانية، لا يحتاج الاقتصاد المرتكز على تصدير النفط إلى أكثر من ضمانات التصدير التي تتطلب قدرة على حماية وسائل نقل النفط الى أسواقه. وواضح أن السيطرة على أعالي البحار، حيث تمخر الناقلات العملاقة، مسألة لا قبل للجمهورية الاسلامية بها. وبين ضمان طرق نقل النفط على مستوى العالم وبين ارسال المدمرات إلى سورية مرتين في أقل من عام في رحلات استعراضية، فرق شاسع. هذا من دون الحديث عن المستوى المتواضع (على الصعيد العالمي) لمجمل الاقتصاد الايراني خارج قطاع النفط والغاز، حيث يصعب العثور على سلعة إيرانية ذات قيمة مضافة مرتفعة في أي من أسواق العالم. ومن ناحية المضمون الايديولوجي للنظام، يجوز القول انه فقد قابليته للتصدير وانتهى في أعين الشعوب العربية منذ اعوام عديدة بعدما سقطت فكرة الوحدة الاسلامية بين أبناء المذاهب المختلفة، لأسباب هي مزيج من السياسة والدين. وبات أكثر المدافعين عن العلاقة مع طهران في العالم العربي يغلفها بدور إيران المساند للحق الفلسطيني في الصراع ضد اسرائيل. بيد أن الذريعة هذه احترقت ايضاً في سياق محاولات التسلط الايراني على العراق وفي الانحياز لأحد طرفي الانقسام في لبنان، ما اتخذ طابع تشجيع الصراع المذهبي. وثمة مسألة شديدة الأهمية تتعلق ببناء الامبراطوريات. فإلى جانب الحاجات والضرورات الموضوعية والمادية للدول لحماية مصالحها، هناك سمة تبرز في الترجمة العملية للمصالح الامبراطورية الى سياسات. ومنذ امبراطوريات العالم القديم، كان القرار بخوض الحروب وبالتضحية بمواطني تلك البلاد من أجل مصلحة الامبراطورية قراراً مطروحاً أمام كل حكام الدول العظمى. ومن فراعنة مصر القديمة الى جورج بوش الابن، يشكل ارسال الجيوش الى الحرب عنصراً لازماً في السياسة الامبراطورية. في إيران، يبدو أن الخسائر الهائلة التي تكبدتها في الحرب ضد العراق، من الناحيتين البشرية والمادية، هي من العوامل الرئيسة التي تفسر الحديث عن «دهاء» السياسيين الايرانيين و «حنكة حائك السجاد وصبره». ويمكن وضع سجل للنشاطات الايرانية الخارجية والتعرف الى حجم المشاركة المباشرة فيها التي تكاد تبلغ الصفر، فيما تكفل الحلفاء والاصدقاء القيام بالأعباء البشرية الثقيلة. عليه يبدو المانع الحقيقي لخوض المغامرات السياسية – العسكرية، او ما يبعد عن النظام الايراني الصفات الانتحارية، هو الخوف من تداعيات الخسائر البشرية على تماسك النظام والمجتمع الايرانيين اللذين وصلا الى حافة الانهيار في المرحلة الاخيرة من الحرب العراقية - الايرانية، من جهة. أما من الجهة الثانية، فهو ضآلة المصالح التي تغري أي سلطة بحشد قواها لحمايتها والدفاع عنها بالقوة المسلحة. يضاف الى ذلك معطى ثالث هو سهولة اثارة الغبار الاعلامي والمخاوف الغربية في الشرق الاوسط، ما يجعل الابتزاز يحل مكان السياسات الجدية.