غلّب ضم دول مثل اليونان الى منطقة اليورو كفة الإرادة السياسية على الواقع الاقتصادي. ولكن الأزمة الأخيرة رجحت كفة الضوابط الاقتصادية، بعد أن أججت فصول أبرز أزمة في تاريخ الاتحاد الأوروبي. وتعود جذور الأزمة المالية اليونانية الى القرون الخالية التي ولدت اليونان من فصولها. فالجغرافيا، على ما يقول المعلق الأميركي روبرت كابلن، وزنها راجح في صوغ الهوية اليونانية. وانشغل الاتحاد الأوروبي بتقويم ميزان القوى بين فرنساوألمانيا، ومعالجة انقساماته الحديثة بين الجنوب والشمال. وأهمل، تالياً، ترميم الصدع التاريخي بين دول شرق الاتحاد الأوروبي وغربه، وتجاهل الحدود بين روما وبيزنطية، وبين امبراطورية هابسبرغ المزدهرة في فيينا والأمبراطورية العثمانية الفقيرة في القسطنطينية. واليونان هي من بنات التسلط البيزنطي والتركي أكثر منها من بنات أثينا بيريكليس وديموقراطيتها، على ما يلاحظ كابلن. ولم تبرز طبقة وسطى مزدهرة في اليونان ولا في دول جوارها المتوسطي، المنقطعة عن حركة التجارة النشطة بشمال غربي أوروبا، وهي المعولة على قطاع زراعي ضعيف. والاستقطاب بين الفقراء والأغنياء جاد في بنية المجتمع اليوناني. فليس وليد صدفة أن يهيمن آل كارامانليس وآل باباندريو على السياسة اليونانية، في العقود الخمسة الماضية. وفاقمت الحرب الأهلية اليونانية ( 1946 - 1949) بين الشيوعيين والمحافظين، وسندهم الولاياتالمتحدة، عجز اليونان عن ارساء جهاز الدولة الحديثة. والنزاع هذا قوض بقايا الدولة اليونانية التي نجت من براثن الاحتلال الألماني في الحرب العالمية الثانية، وأرسى الاستقطاب في الحياة السياسية. وعبّد بروز مؤسسة أمنية مناوئة للشيوعيين الطريق أمام بلوغ شلة عسكرية السلطة بين 1967 و1974. وفي مطلع الثمانينات، أصدرت حكومة اندرياس باباندريو، والد رئيس الوزراء الحالي، سلسلة من القرارات التي أفضت الى تعاظم حجم الديون الحالي. فيومها، سعى رئيس الوزراء في ارساء اسس دولة ديموقراطية اشتراكية. ولكن حجم القطاع العام الذي اسسه باباندريو تضخم، وصار ثقلاً على موازنة الدولة. وساعات العمل في اليونان قليلة قياساً على نظيرتها في أوروبا. فاليونانيون يعملون من ال7:30 صباحاً الى الثانية والنصف بعد الظهر. ويتلقى الموظفون مكافأة قيمتها راتباً اضافياً مرتين في السنة. وفي وسع بعضهم التقاعد في سن ال53 سنة. ووصفت الصحافة اليونانية المعضلة اليوم متهكمةً ب «عقدة أوديب»، وقالت «على رئيس الوزراء أن يقتل سياسات والده لينقذ الدولة». ولكن الرجوع عن سياسات باباندريو الوالد غير كاف. فثقافة الفساد والتهرب الضريبي راسخة في اليونان. ويُعصى على الدولة جباية الضرائب. وعنونت احدى الصحف «لا ضرائب. فنحن يونانيون». وروت شابة يونانية أن الأطباء «يبتزون المريض في المستشفيات العامة. وإذا لم يعطهم رزمة صغيرة من المال أهملوا العناية به». وحال القطاع الخاص هي من حال القطاع العام. فثلاثة أرباع الشركات الخاصة عائلية. ومعظمها يفتقر الى معايير المنافسة. وإذا لم يجد الشاب اليوناني فرصة عمل في القطاع العام، عمل في شركة والده أو قريبه. وراتب الحد الأدنى المرتفع هو وراء استهلاك اهالي القرى الليمون والحامض المستوردين، في وقت تذبل الفاكهة والخضار على الأشجار جراء ارتفاع كلفة جنيّها، على ما يقول أحد المصرفيين. والبيروقراطية تخنق النظام اليوناني. «ففي اليونان لدينا نظام رأسمالي في قلب دولة سوفياتية»، على قول مراقب يوناني. وتجنبت اثينا معالجة هذه الأمور من طريق الإسراع في الالتحاق بالمجتمع الأوروبي في 1981، قبل 14 سنة من انضمام دول أكثر ثراء منها مثل النمسا وفنلندا والسويد، وقبل 5 أعوام من انضمام اسبانيا والبرتغال. ويومها، زعمت اليونان أنها وريثة اليونان القديمة، مهد الديموقراطية الغربية، وأن رابطها بثقافات الشرق ضعيف. ورأى مؤيدو اليونان أن رفض عضويتها يترك شبه الجزيرة في عزلة، ولا يكافئها على إطاحة الحكم العسكري، ويُظهر ان أوروبا عاجزة عن مساعدة دولة صغيرة ضعيفة على تجاوز الماضي. والحق أن خطة انقاذ اليونان المالية خلفت الاستياء في ألمانيا. فالألمان يشعرون بالحيرة ازاء دورهم الآتي في الاتحاد الأوروبي. والمستشارة الألمانية، انغيلا ميركل، هي خاتمة عنقود جيل من السياسيين الألمان الملتزمين قضية أوروبا. وفي بدء الأزمة سارعت ميركل الى القول أن حماية اليونان مسؤولية مشتركة، على خلاف رأي الألمان ووزراء حكومتها. ويجمع الألمان بين رفض اضطرار بلدهم الى إنقاذ دولة أوروبية أخرى، في القريب العاجل، وبين انتهاج سياسة تعزف عن تشجيع الاستهلاك الداخلي وتقلص معدلات الادخار. والأزمة أبرزت ضعف تنسيق السياسات المالية في منطقة اليورو. فاليورو لم يرفع قدرة الاقتصادات الضعيفة على التنافس. وهو في مثابة ملجأ لجأت اليه اليونان وغيرها من الدول الأوروبية للاستفادة من الفوائد المنخفضة التي غذت فقاعة الأصول المالية، ولتفادي اصلاح اقتصاداتها. ونجاة اليورو من الأزمة وخروجه منها سالماً هو رهن تنسيق السياسات المالية والاقتصادية. * مديرة مراسلي الشؤون الخارجية في صحيفة «تايمز»، عن «بروسبكت» البريطانية، 6/2010، اعداد منال نحاس