توفي قبل أيام قليلة في مدينة طرابلس صديق اسمه مراد، عن عمر ناهز الستين عاماً وقد ترك خلفه زوجة وابن وثلاث بنات. تزوجت اثنتان بعد إكمال دراستهما الجامعية وصار له أحفاد منهما، وتخرج الابن من الجامعة كما تخرجت الابنة الصغرى وظلا معه في البيت وأفلح في أن يقيم أود هذه الأسرة ويحفظ لها حياة كريمة ويصل ببناته وابنه إلى بر الأمان قبل وفاته من دون أن يمارس أي عمل في حياته أو يملك أطياناً ينتفع بمردودها، أو يسعده الحظ بأن يرث مالاً عن قريب رحل عن دنيانا، أو يذهب يوماً واحداً إلى الوظيفة الوحيدة التي انتسب إليها. كان قد ترك الدراسة قبل إكماله المرحلة الإعدادية، وهو صبي في الثالثة عشرة من عمره وبقي يصاحب أبناء العائلة الأكبر سنا، بخاصة خاله الذي كان قريباً منه وقد انتسب هذا الخال منذ صباه للعمل في الإذاعة وتطور معها حتى صار مخرج منوعات. وعندما كبر مراد ووصل سن ارتياد الحانات والمقاهي والمطاعم التي تبيع الكحول صار يحضره معه إلى جلساتنا في أواخر الستينات عندما كان هذا المنكر مباحاً، واستطاع في الفترة الانتقالية بين انهيار العهد الملكي وبداية العهد الانقلابي أن يجد فرصة يتسلل منها بابن اخته مراد إلى الإذاعة ويحصل له على وظيفة مساعد فني تسجيل، يتقاضى بموجبها مرتباً صغيراً، دون أن يترتب على هذا العمل التزام بساعات الحضور والانصراف لأنه في الأساس عمل ثانوي لا احد يهتم لحضور أو غياب صاحبه ولا دوام ثابتاً له، علاوة على أن الخال بما للمخرجين من نفوذ وسطوة على هذه المجالات الفنية في العمل الإذاعي، كان قادراً دائماً على تقديم الأعذار والتغطية على غياب ابن الأخت ولهذا استمرأ مراد هذا الغياب ورتب حياته على انه لا ضرر من استمراره وجعله غياباً أبدياً عن الوظيفة، من دون أن يتأثر مرتبه بذلك، فقد أضحى مراد اسماً موجوداً على جدول المرتبات التي تذهب من الإذاعة إلى المصرف، ويبدو انه عرف كيف يدير أمور معيشته ويسد احتياجاته في حدود هذا الدخل الشهري الذي يصل إليه دون تعب ولا عناء. وكنت رفيق سهر للخال، فكان مراد يأتي لينضم إلى جلستنا المسائية في المقهى، شاب يتمتع بوسامة وأناقة، حسن الهندام، شديد التهذيب، كثير الابتسام، يحب سماع النكت ويضحك لها كثيراً، حتى عندما تكون النكتة باهتة لا تستقطب ضحكاً من احد، فإنه يجد فيها ما يضحكه إلى حد القهقهة العالية، وهو ما يجعله قريباً من قلوب أعضاء الجلسة، محبوباً من روادها الذين يقبلون على المسامرة معه رغم أن اغلبهم اكبر سناً منه، كما كان شديد الحب للغناء ويتحمس للألوان الليبية الشعبية منه، وكان هناك في مقهى زرياب الذي نرتاده صندوق لتشغيل الأغاني، فكان دائم الاهتمام به بل يقترح على صاحب المقهى بعض الأغاني، ويشتريها له أسطوانات من السوق، يزوده بها لتكون جاهزة عندما يريد تشغيل الجهاز لسماعها. وعرفت انه نال تدليلاً من امه الأرملة، باعتباره جاءها بعد بنات وظل يعيش معها بمفرده بعد انتقال أخواته إلى بيوت أزواجهن ، فجعله هذا التدليل لا يعي كيف يتحمل مسؤولية لأنها هي التي كانت تقضي له حوائجه وتشتري له ملابسه ويجد طعامه جاهزاً وكذلك فراشه، فيأكل الطعام ويذهب إلى الفراش، إلى أن صار النوم هو حرفته التي لا يتقن حرفة غيرها، وانتهى الأمر بهذه الأم إلى أن خطبت له إحدى قريباتها، وزوجتها له وأسكنته معها في بيتها. وكان خاله يناديه مراد باشا بسبب كسله الشديد ونومه طوال اليوم دون عمل كما يفعل الباشاوات، ويضحك من استغراقه الدائم في النوم ويقول انه بالتأكيد تعرض للسعة من ذبابة تسي تسي جعلته مصاباً بمرض النوم لا يبرأ منه. وكان مراد فعلاً لا ينهض إلا ظهراً، ليتناول الغذاء، ثم يعود لينام من جديد، فترة القيلولة، ويبدأ مع مجيء المساء حياته الاجتماعية ومغادرة البيت للقاء أصدقاء المقاهي مثلنا، ليعود ليلاً إلى النوم ولا يفيق إلا منتصف اليوم التالي، فلا مجال لعمل ولا قراءة، ولا هوايات أخرى إلا إذا كانت مشاهدة حصة منوعات في التلفاز أو نشرة أخبار قبل النوم في حد ذاتها هواية. تقطعت الأسباب التي كان تصل بيننا في جلسات المقاهي في العقود الثلاثة الأخيرة، لأن المقاهي نفسها صارت تتعرض للمداهمة والإغلاق، فنأى الناس بأنفسهم عنها، وكنت لا أرى مراد إلا لماماً، وأذهب أحياناً إلى الإذاعة فأعرف أنه لا زال موجوداً فيها ولكن لا علاقة تربطه بها غير علاقة المرتب، ثم علمت أنه جرى حصر للعاملين وأبقوا على العناصر التي تؤدي عملاً، ووضعوا الموظفين الآخرين في قوائم العمالة الزائدة وبينهم مراد، وأحالوا القائمة إلى إدارة تسمى إدارة الإنتاج، إلا أنها في الحق إدارة للعاطلين، لأن أغلب الذين يحالون إليها في مقام صديقنا مراد، أصابهم نفور من العمل أو تمكن منهم الكسل ومرض النوم الصباحي، فلم يعد ممكناً أن يفي الواحد منهم بالتزامه نحو أي عمل، بخاصة أن أغلبهم مثل السيد مراد لا يملكون مؤهلات إلا ما توافر من خبرة في مجال لم يعد ذات أهمية مثل مهنة فني تسجيل إذاعي التي يحملها أخونا مراد في بطاقته، لأن المهنة نفسها انقرضت بعد التقنية الرقمية التي دخلت هذا المجال وصارت المهنة جزءاً من عملية فنية تحتاج إلى مهندس أليكتروني للقيام بها. ولعل صديقنا مراد كان سعيداً بانتقاله إلى هذه الإدارة، لأنه لم يعد محرجاً مع الإذاعة بعد أن قضى اكثر من ثلاثة عقود من البطالة، معتمداً على مرتب يتقاضاه منها، وإذا كان قد راوده في يوم من الأيام إحساس بالإثم، فقد قامت هذه الإحالة إلى الإنتاج بمحوه، كما تحرر من مشاعر الخوف من أن يفقد الراتب، بعد أن تمت إحالة خاله على التقاعد، ولم يعد يملك تلك السلطة التي كانت تحمي ابن الأخت من سيف العدل الإداري، ولابد انه الآن وفي زحمة هذه الأسماء الكثيرة التي تحتويها قوائم المحالين للإنتاج، قد احس بالألفة لأنه بين إخوته في العطالة والبطالة، من أبناء هذا الوطن المعطاء. نعم، نجح عزيزنا مراد باشا، في أن يحافظ على دخل يطعم به أطفاله ويصون به أسرته من نوائب الدهر، ويحميها من الانهيار تحت وطأة الحاجة، كما نجح في الوصول بهم جميعاً إلى إكمال الدراسة الجامعية وتأمين مستقبلهم، ولكنه في الحقيقة فشل في شيء آخر، بدا واضحاً على ملامحه في آخر لقاءات لي معه في العامين الأخيرين من حياته، رأيت مراد الوسيم الأنيق يتحول إلى حطام إنسان. فقد الألق والإشراق، وامتلأ وجهه بالتجاعيد، وظاهر يده بالعروق النافرة الزرقاء، التي تدل على أمراض الشيخوخة المبكرة. كما رأيته فقد ما كان عليه من حيوية ونشاط، وما يغطي وجهه من بشر وبشاشة وابتسام، بل استطعت أن أتبين في سلوكه وأسلوب حديثه شيئاً من البلاهة والتخلف العقلي، كأنه واحد من فصيلة المنغول، الذين تعطلوا عن النمو العقلي منذ مراحل العمر الأولى، رغم ما أعرفه عن نموه السوي خلال عمر من اختلاطي به، وتيقنت أن ما أصابه هو أمراض الاستقالة من الحياة عندما يفقد الإنسان أي حافز لاستمرار وجوده في هذا العالم، أو أي هدف من بقائه بين قاطنيه، حيث تتحول أيام العمر منذ البداية إلى النهاية، ومن المهد إلى اللحد، إلى مجرد مساحة فارغة بيضاء. وربما كان آخر هدف يربطه بهذا العالم هو وجود ابنه وصغرى بناته في الجامعة، وعندما تخرجا أحس بأنه لم تعد له رسالة يؤديها في هذه الحياة. وجاء خبر انتقاله إلى العالم الآخر، فلم يكن موضع استغراب من طرفي وهو في هذه السن، ولم يكن يشكو من مرض عضال أو جاء موته نتيجة حادث فاجع وإنما مات كما علمت في ما بعد أثناء نومه، جاءت زوجته لإيقاظه للغذاء، فوجدته اسلم الروح. لم اندهش لموته، وإن كنت طبعاً أجسست بكثير من الأسى والحزن وقد أثار مراد باشا سؤالاً في ذهني ليس بسبب موته فقط، ولكن بسبب أسلوب حياته أيضاً، وعما إذا كانت لهذه الاستقالة من الحياة، علاقة بوجود نظام حكم شديد التجهم والصرامة والقسوة في معاملة المواطنين لا هدف ولا غاية للقائمين عليه إلا البقاء في الحكم، وغابت مع هذا الهدف كل الأهداف والغايات الأخرى، فانتفى وجود أجندة يجتمع حولها الناس ويهتدي بها المواطنون في حياتهم، فانعكس هذا الفراغ على حياة كثير من أبناء البلاد يسلمهم إلى العزلة والضياع والشعور بعبث الحياة وغياب الجدوى، فتتحول حياتهم إلى هذا الفراغ المهول الذي يبتلع كل معنى من معاني الحياة وجدواها وقيمتها، ولم يكن لينجو من هذا المصير إلا إنسان يملك من الموارد الروحية والمعنوية ما يساعده في الاهتداء إلى أجندة خاصة به تحميه من رعب وجحيم هذا الفراغ. ويا عزيزي مراد باشا، لقد كنت صديقاً للنوم، فاهنأ أيها الإنسان الضحوك البشوش بهذا الرقاد الأبدي الذي جاء يطلبك قبل الأوان.