«فتحت عيني على الدنيا ووجدت نفسي في ملجأ للأيتام» تقول نورة (24 سنة). وبصوت متحشرج يغالب البكاء أضافت: «نالتني خطيئة الغير، وتطاردني نظرات المجتمع». لعلها المرة الأولى التي تفتح فيها نورة قلبها لتروي فصول حكايتها المؤلمة بين جدران دور الأيتام وشوارع العاصمة عمان التي احتضنتها بعد حين. عبارة «بنت الحرام» كما يناديها المجتمع، قالتها نورة في اللقاء الذي جمعنا بها عند غروب ذلك النهار. وفي غمرة الحديث تستعيد الفتاة مشاهد الضرب والتعذيب الذي كانت تتجرعه داخل ملجأ حكومي، قبل أن «تلقى في الشارع» عند إتمامها الثامنة عشرة، السن التي تتوقف معها الرعاية وفق قوانين المملكة المعمول بها منذ 38 سنة. «أعقاب السجائر التي أطفئت في جسدي لا تزال شاهدة على فصول الحكاية»، تقول نورة. وثمة مشهد آخر لا يغيب عن ذاكرتها: «الحبل الذي ربطتني به إحدى المشرفات وأنا محتجزة في مستودع الملجأ، آثاره على بطني شاهدة على الجريمة، حينها كان عمري عشر سنوات». الشابة المتذمرة من سوء المعاملة التي ينالها «مجهولو النسب» كررت أكثر من مرة هذه العبارة: «الخارج من دار الأيتام كالخارج من جحيم إلى جحيم». انتابها شعور الفرح عند مغادرتها الدار. ولم تدر أن أقداراً مجهولة ستجعل من جسدها النحيل أسير سجن كبير، في مجتمع ينظر إلى «اللقيط» نظرة مشككة. وقعت «نورة» ضحية شاب ادعى حبها وأقنعها بزواج لم يدم سوى 3 سنوات، نالت خلالها صنوفاً من الظلم والعذاب بموازاة ما كان يقع عليها داخل الدار. ولم تكن الشابة أفضل حالاً من رفاقها خريجي دور الرعاية. فقد نامت ليالي مظلمة بين الأحراج والجبال، بلا طعام أو دواء يعالج الضمور الذي غزا أجزاء من جسدها. لكن الظروف القاسية لم تنل من عزيمتها، إذ حصلت على درجة البكالوريوس في علاج مرض «التوحد» على نفقة «صندوق الأمان» - الذي يوفر المأكل والمسكن لطلاب الجامعات الفقراء والأيتام ومجهولي النسب - وهي اليوم تعمل بجد لتوفير النقود وإكمال مسيرتها العلمية. ولا تتوقف مراكز حقوقية في الأردن عن رفع عقيرتها في وجه ما تعتبره إساءات بالغة يتعرض لها أطفال الملاجئ، وهو ما دفع المركز الوطني لحقوق الإنسان الذي تموله الحكومة إلى المطالبة أخيراً بقوانين «عصرية» يتم اعتمادها داخل تلك الدور، كما تحدث المركز عن «قصور في ملف دور الأحداث». حكاية موازية لحكاية نورة، تجرى وقائعها على لسان فادية (25 سنة). كانت معلقة من قدميها ومدلاة رأساً على عقب. أنينها كان يكسر حاجز الصمت المطبق داخل المستودع الخاص بدار الأيتام. هذا مشهد من مشاهد تعذيب كثيرة نالتها فادية بعد انضمامها مبكراً إلى عالم اللقطاء المحفوف بالألم، والموغل في المجهول. في لحظة سكون تعود بشريط الذاكرة إلى الوراء مسترجعة أصوات الصراخ الصادرة عن أطفال الدار عند تعرضهم للضرب المبرح. وتتذكر فادية الأحداث غير المتسقة، متحدثة عن ذلك اليوم الماطر حينما تجمعت المشرفات وانهلن عليها ضرباً، قبل أن تقضي الليلة بأكملها على بوابة الميتم تعاني البرد والجوع. الخروج قسراً من ذلك المكان لم يخفف على ما يبدو من جراحات فادية التي قضت ليلتها الأولى بعيدة من مكان نومها الاعتيادي، في دورة المياه التابعة لأحد المراكز التجارية. فصول جديدة أكثر قساوة كانت تنتظر «يتيمة الدار». فقد عاشت ليالي طويلة في الحدائق العامة وأزقة الحواري الضيقة بلا مأوى. تروي الفتاة وهي في حال هستيرية مشهد تعرضها للاختطاف، ومحاولات الاغتصاب التي كانت تنجو منها بأعجوبة. لكن غرائب ذاك القدر الذي رمى بها في أقبية اليتم والحرمان، وجعلها أسيرة لعقود من الخوف، هي نفسها التي جمعتها بعد حين برفيق الملجأ أحمد (27 سنة) الذي دخل تلك الدور نتيجة التفكك الأسري وليس اليتم. تزوج الشابان وأنجبا قمر ليستمر مسلسل المعاناة بحثاً عن لقمة العيش في مجتمع لا يرحب بتوظيف اللقطاء بل يحملهم ذنباً كونهم ضحية. وفي قاع المدينة مشهد آخر لشاب «مجهول النسب». إنه علي الذي يستخدم اسماً مستعاراً وهو يتحدث عن بداياته مع «تجارة الجنس»، مسترجعاً لحظة إبلاغه من قبل مشرف دار رعاية الأيتام بانتهاء الفترة المخصصة لاحتضانه. يقول: «أوصدت الأبواب في وجهي، ووجدت نفسي مشرداً في الشوارع بلا مأوى فرحت أجوب شوارع البلدة القديمة مروجاً لبائعات الهوى مقابل بضعة دنانير». ولا يساور علي أي شك في أنه يسير في الطريق الخطأ، لكنه يقول بنبرة يغلب عليها الحزم: «المجتمع الذي ينكرني هو السبب. ماذا تريدونني أن أفعل والدولة تستكثر علينا حتى أرقاماً وطنية مزورة». ويتابع بصوت غاضب: «سمعتها كثيراً عبارة ابن الحرام على ألسن رجال الأمن، فالهوية الشخصية التي تمن علينا بها الحكومة تفضح الطابق وتكشف المستور». ويمنح «السجل الوطني» الأردني أسماء مركّبة لفئة مجهولي النسب، وأرقاماً وطنية ثبوتية، لكنها وهمية. يأمل العديد من «مجهولي النسب» الذين التقتهم «الحياة» بنيل حياة كريمة تنهي سنوات بائسة داخل الملاجئ وخارجها، وهو ما دفع فئة منهم إلى الخروج إلى الشارع أخيراً مطالبين بتأمينات صحية ووظائف حكومية ومساكن تؤويهم. لكن المتحدث باسم وزارة التنمية الاجتماعية - المعنية بأوضاع مجهولي النسب - فواز الرطروط ينفي تعرض الأطفال في دور الرعاية لاعتداءات منظمة. ويجادل بأن الحديث عن معاملة «غير واقعية» هدفه «استعطاف المجتمع». لكن الرطروط يقر بتحويل «عدد قليل» من المشرفين إلى القضاء بعد أن اتهموا بالإساءة للنزلاء. ويقول إن «عدداً كبيراً من مجهولي النسب حصلوا على الدعم، ووظفوا في مؤسسات حكومية»، لكن المجهولين يؤكدون أن الدعم الذي يقدم لهم متقطع ويعتمد على التبرعات الشحيحة، معتبرين أن أعداداً «لا تذكر» هي التي استفادت من قرار التوظيف في القطاعات الحكومية. ويشرح أستاذ علم الاجتماع حسين خزاعي الأوضاع النفسية لمجهول الهوية. ويقول إن «اللقيط يعاني القلق والخوف والاضطرابات النفسية». ويطالب خزاعي المجتمع باحتضان من حرموا العائلة، ويؤكد أن عكس ذلك «يولد النقمة داخل فئة مظلومة تحملت وزر أخطاء الغير». وتظهر أحدث أرقام صادرة عن وزارة التنمية تعامل الجهات المعنية مع عشرين من فئة «مجهولي النسب» سنوياً، بدأ العمل حديثاً بتلزيمهم إلى أسر أردنية تتقدم بطلبات احتضان. ويعمل في الأردن اثنان وثلاثون داراً للأيتام ومجهولي النسب تشرف عليها الحكومة، وتتلقى التبرعات من الجهات الخيرية.